كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الِاحْتِجَاجِ بِالعمومِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ فِي مَا بَقِيَ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ فِي صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ فِي مَا بَقِيَ فَأَثْبَتَهُ الْفُقَهَاءُ مُطْلَقًا، وَأَنْكَرَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَأَبُو ثَوْرٍ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالتَّفْصِيلِ، فَقَالَ الْبَلْخِيُّ (1) : إِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ كَالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِنَّ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: إِنْ كَانَ الْمُخَصَّصُ قَدْ مَنَعَ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ الْعَامِّ، وَأَوْجَبَ تَعَلُّقَهُ بِشَرْطٍ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ الظَّاهِرُ لَمْ يَجُزِ التَّعَلُّقُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فَإِنَّ قِيَامَ الدَّلَالَةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْحِرْزِ وَمِقْدَارِ الْمَسْرُوقِ مَانِعٌ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِعُمُومِ اسْمِ السَّارِقِ، وَمُوجِبٌ لِتَعَلُّقِهِ بِشَرْطٍ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُخَصَّصُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ الْعَامِّ فَهُوَ حُجَّةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) ، فَإِنَّ قِيَامَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قَتْلِ الذِّمِّيِّ غَيْرِ مَانِعٍ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِاسْمِ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: إِنْ كَانَ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ، لَوْ تَرَكْنَا وَظَاهِرُهُ مِنْ دُونِ التَّخْصِيصِ كُنَّا نَمْتَثِلُ مَا أُرِيدَ مِنَّا، وَنَضُمُّ إِلَيْهِ مَا لَمْ يُرَدْ مِنَّا صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) الْمُخَصَّصُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْعَامُّ بِحَيْثُ لَوْ تَرَكْنَا وَظَاهِرُهُ تَخْصِيصٌ لَمْ يُمْكِنَّا امْتِثَالُ مَا أُرِيدَ مِنَّا دُونَ بَيَانٍ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} لَوْ تَرَكْنَا وَالْآيَةُ لَمْ يُمْكِنَّا امْتِثَالَ مَا أُرِيدَ مِنَّا مِنَ الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ قَبْلَ تَخْصِيصِهِ بِالْحَائِضِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ.
(1) أَبُو ثَوْرٍ هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ الْكَلْبِيُّ الْفَقِيهُ الْبَغْدَادِيُّ مَاتَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ 240 عَنْ 70 سَنَةً
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ.
وَاتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَامَّ لَوْ خُصَّ تَخْصِيصًا مُجْمَلًا، فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى حُجَّةً كَمَا لَوْ قَالَ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَّا بَعْضَهُمْ.
وَالْمُخْتَارُ صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ فِيمَا وَرَاءَ صُوَرِ التَّخْصِيصِ، وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ الْأَصْحَابِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: اللَّفْظُ الْعَامُّ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِلْكُلِّ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَوْنُهُ حُجَّةً فِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِ ذَلِكَ الْكُلِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ، أَوْ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً فِي الْكُلِّ أَوْ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ كَوْنُهُ حُجَّةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَقْسَامِ مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِ حُجَّةً فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ فَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ، وَإِنْ كَانَ كَوْنُهُ حُجَّةً فِي بَعْضِ الْأَقْسَامِ مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِ حُجَّةً فِي قَسَمٍ آخَرَ وَلَا عَكْسَ، فَكَوْنُهُ حُجَّةً فِي ذَلِكَ الْقِسْمِ الْآخَرِ يَبْقَى بِدُونِ كَوْنِهِ حُجَّةً فِي الْقَسَمِ الْمَشْرُوطِ، وَلَيْسَ بَعْضُ الْأَقْسَامِ بِذَلِكَ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ مَعَ تَسَاوِي نِسْبَةِ اللَّفْظِ الْعَامِّ إِلَى كُلِّ أَقْسَامِهِ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ كَوْنَهُ حُجَّةً فِي الْكُلِّ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ، لِأَنَّ الْكُلَّ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ، وَذَلِكَ أَيْضًا دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ.
وَإِذَا بَطَلَ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ كَوْنُهُ حُجَّةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَقْسَامِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ، وَلَا عَلَى الْكُلِّ ثَبَتَ كَوْنُهُ حُجَّةً فِي الْبَعْضِ الْمُسْتَبْقِي، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ حُجَّةً فِي غَيْرِهِ.
وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مَعَ طُولِهَا ضَعِيفَةٌ جِدًّا إِذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا الْمَانِعُ مِنْ صِحَّةِ تَوَقُّفِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَقْسَامِ عَلَى الْآخَرِ، أَوْ عَلَى الْكُلِّ مَعَ التَّعَاكُسِ؟
قَوْلُهُ إِنَّهُ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا إِذَا كَانَ التَّوَقُّفُ تَوَقُّفَ مَعِيَّةٍ أَوْ تَوَقُّفَ تَقَدُّمٍ؟ (1) الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ.
وَلَكِنْ لِمَ قُلْتَ بِأَنَّ التَّوَقُّفَ هَاهُنَا بِجِهَةِ التَّقَدُّمِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ بَيَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ.
(1) الدَّوْرُ نَوْعَانِ سَبْقِيٌّ وَمَعِيٌّ، فَالسَّبْقِيُّ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا الْقَبْلِيُّ هُوَ تَوَقُّفُ الشَّيْءِ عَلَى مَا تُوُقِّفَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: مُصَرَّحٌ وَمُضْمَرٌ، فَالْمُصَرَّحُ مَا كَانَتِ الْوَاسِطَةُ فِيهِ وَاحِدَةً مِثَالُهُ أَنْ يُقَالَ مَثَلًا: خَالِدٌ أَوْجَدَ بَكْرًا وَبَكْرٌ أَوْجَدَ خَالِدًا، فَبَكْرٌ مُتَوَقِّفٌ فِي وُجُودِهِ عَلَى خَالِدٍ وَخَالِدٌ مُتَوَقِّفٌ فِي وُجُودِهِ عَلَى بَكْرٍ، فَالْوَاسِطَةُ وَاحِدَةٌ وَيُقَالُ لِمِثْلِ هَذَا دَوْرٌ بِمَرْتَبَةٍ، وَالْمُضْمَرُ مَا كَانَتِ الْوَاسِطَةُ فِيهِ أَكْثَرَ مِثَالِهِ: أَنْ يُقَالَ مَثَلًا: خَالِدٌ أَوُجَدَ بَكْرًا، وَبَكْرٌ أَوْجَدَ عَلِيًّا، وَعَلِيٌّ أَوْجَدَ خَالِدًا، فَفِي هَذَا الْمِثَالِ تَوَقَّفَ وُجُودُ خَالِدٍ عَلَى نَفْسِهِ بِوَاسِطَتَيْنِ بَكْرٍ وَعَلِيٍّ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ بِمَرْتَبَتَيْنِ، وَكُلَّمَا زَادَتِ الْوَسَائِطُ كَانَتِ الْمَرَاتِبُ بِحَسَبِهَا، وَهَذَا الدَّوْرُ بِقِسْمَيْهِ بَاطِلٌ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَاقُضِ إِذْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ سَابِقًا لَا سَابِقًا مُؤَثِّرًا لَا مُؤَثِّرًا إِلَخْ، بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ غَيْرَ نَفْسِهِ ضَرُورَةَ التَّغَايُرِ بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ وَالْأَثَرِ وَالْمُؤَثِّرِ، أَمَّا الدَّوْرُ الْمَعِيُّ فَمِثْلُ تَوَقُّفِ كُلٍّ مِنَ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ عَلَى الْآخَرِ، فَلَا تُعْقَلُ أُبُوَّةٌ إِلَّا مَعَ عَقْلِ بُنُوَّةٍ، وَلَا بُنُوَّةٌ إِلَّا مَعَ عَقْلِ أُبُوَّةٍ، وَلَا يُوجَدُ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَّا مَعَ وُجُودِ الْآخَرِ دُونَ تَقَدُّمٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَجُودًا وَتَعَقُّلًا، وَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِضَافَاتِ وَهِيَ أُمُورٌ اعْتِبَارِيَّةٌ لَا وُجُودَ لَهَا، وَلِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا لَيْسَ عِلَّةً فِي وُجُودِ الْآخَرِ وَلَا مَعْلُولًا لَهُ، بَلْ كِلَاهُمَا أَثَرٌ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُمَا
وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ.
أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ فَاطِمَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – احْتَجَّتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي مِيرَاثِهَا مِنْ أَبِيهَا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الْآيَةَ مَعَ أَنَّهُ مُخَصَّصٌ بِالْكَافِرِ وَالْقَاتِلِ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ صِحَّةَ احْتِجَاجِهَا مَعَ ظُهُورِهِ وَشُهْرَتِهِ، بَلْ عَدَلَ أَبُو بَكْرٍ فِي حِرْمَانِهَا إِلَى الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
” «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» “.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ عَلِيًّا (1) عَلَيْهِ السَّلَامُ احْتَجَّ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْمِلْكِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مَعَ كَوْنِهِ مُخَصَّصًا بِالْأَخَوَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ نَكِيرٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ احْتَجَّ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُرْضِعَةِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ، وَقَالَ: قَضَاءُ اللَّهِ أَوْلَى مِنْ قَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، مَعَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ لِكَوْنِ الرَّضَاعِ الْمُحَرَّمِ مُتَوَقِّفًا عَلَى شُرُوطٍ وَقُيُودٍ، فَلَيْسَ كُلٌّ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ صِحَّةَ احْتِجَاجِهِ بِهِ فَكَانَ إِجْمَاعًا.
(1) عَلِيًّا – الصَّوَابُ: ” عُثْمَانَ “
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْعَامَّ قَبْلَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَقْسَامِهِ إِجْمَاعًا.
وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ قَبْلَ التَّخْصِيصِ بَعْدَهُ (1) إِلَّا أَنْ يُوجَدَ لَهُ مُعَارِضٌ.
وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ حُجَّةً فِي الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ لَمْ يَخْلُ إِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ تَجَوُّزًا، لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ إِذْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُشْتَرِكًا (2) بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِغْرَاقِ، ضَرُورَةَ اتِّفَاقِ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي الِاسْتِغْرَاقِ، وَالِاشْتِرَاكُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.
وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فَيَمْتَنِعُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَجَازَ فِيمَا وَرَاءَ صُورَةِ التَّخْصِيصِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَقَلِّ الْجَمْعِ وَمَا عَدَا صُورَةَ التَّخْصِيصَ، وَيَمْتَنِعُ الْحَمْلُ عَلَى الْكُلِّ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ جِهَاتِ التَّجَوُّزِ، وَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ الْمَجَازَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، لِعَدَمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ فَكَانَ مُجْمَلًا.
الثَّانِي: أَنَّ الْمَجَازَ لَيْسَ بِظَاهِرٍ وَمَا لَا يَكُونُ ظَاهِرًا لَا يَكُونُ حُجَّةً.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَّا بَعْضَهُمْ وَالْمُشَبَّهَ بِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَكَذَلِكَ الْمُشَبَّهُ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حُجَّةً، لَكِنْ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ أَوْ فِيمَا عَدَا صُورَةَ التَّخْصِيصِ؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ مُتَيَقَّنٌ بِخِلَافِ الْحَمْلِ عَلَى مَا زَادَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَكَانَ حُجَّةً فِي الْمُتَيَقَّنِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ، أَمَّا الْإِجْمَالُ فَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ حُجَّةٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَقْسَامِهِ قَبْلَ التَّخْصِيصِ إِجْمَاعًا، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا ضَرُورَةً، وَكُلُّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ تَكُونُ لَازِمَةً، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ حُجَّةٌ وَالْعُذْرُ يَكُونُ مُتَّحِدًا.
وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَنَقُولُ: مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا؟ قَوْلُهُمْ: الِاشْتِرَاكُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، قُلْنَا: إِنَّمَا يَكُونُ خِلَافَ الْأَصْلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبِيلِ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا يَأْتِي عَنْ قُرْبٍ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) .
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مُشْتَرَكًا فَمَا الْمَانِعُ مِنَ التَّجَوُّزِ؟
(1) (2) هَذَا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِاسْتِصْحَابِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَفِيهِ خِلَافٌ، انْظُرْ تَفْصِيلَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ السَّادِسِ مِنَ الْإِحْكَامِ لِلْآمِدِيِّ
قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ مُجْمَلٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ جِهَاتِ التَّجَوُّزِ.
قُلْنَا: يَجِبُ اعْتِقَادُ ظُهُورِهِ فِي بَعْضِهَا نَفْيًا لِلْإِجْمَالِ عَنِ الْكَلَامِ إِذْ هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، ثُمَّ مَتَى يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَا عَدَا صُورَةِ التَّخْصِيصِ مَشْهُورًا أَوْ إِذَا لَمْ يَكُنْ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ.
وَبَيَانُ اشْتِهَارِهِ مَا نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنْ عِلْمِهِمْ بِالْعُمُومَاتِ الْمُخَصَّصَةِ فِيمَا وَرَاءَ صُورَةِ التَّخْصِيصِ، نَقْلًا شَائِعًا ذَائِعًا سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ فِيهِ، وَلَكِنْ يَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: لِكَوْنِهِ مُعَيَّنًا وَكَوْنِ أَقَلِّ الْجَمْعِ مُبْهَمًا فِي الْجِنْسِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ حَمْلَهُ عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ اللَّفْظِ أَقَلَّ الْجَمْعِ غَيْرَ مُخِلٍّ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، وَحَمْلَهُ عَلَى أَقَلِّ الْجَمِيعِ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ اللَّفْظِ مَا عَدَا صُورَةَ التَّخْصِيصِ مُخِلٌّ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ فَكَانَ أَوْلَى.
قَوْلُهُمْ: الْمَجَازُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ إِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَةً فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْحُجَّةُ مُنْحَصِرَةً فِي الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً، فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَّا بَعْضَهُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْخَارِجَ عَنِ الْعُمُومِ إِذَا كَانَ مَجْهُولًا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ فِي أَيِّ وَاحِدٍ قَدْرٌ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَثْنَى بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْخَارِجُ مُعَيَّنًا.
وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّرْجِيحَاتِ السَّابِقَةِ.