كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِمُوَافَقَةِ الْعَامِّيِّ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَلَا بِمُخَالَفَتِهِ، وَاعْتَبَرَهُ الْأَقَلُّونَ وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ الْأُمَّةِ إِنَّمَا كَانَ حُجَّةً لِعِصْمَتِهَا عَنِ الْخَطَأِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ السَّمْعِيَّةُ مِنْ قَبْلُ، وَلَا يُمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْعِصْمَةُ مِنْ صِفَاتِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْعِصْمَةُ الثَّابِتَةُ لِلْكُلِّ ثَابِتَةً لِلْبَعْضِ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ لِلْجُمْلَةِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِلْأَفْرَادِ.
فَإِنْ قِيلَ: يَجِبُ تَخْصِيصُ مَا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ بِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ لِسِتَّةِ أَوْجُهٍ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَامِّيَّ يَلْزَمُهُ الْمَصِيرُ إِلَى أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا تَكُونُ مُخَالَفَتُهُ مُعْتَبَرَةً فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّقْلِيدُ فِيهِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْأُمَّةَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلُهَا حُجَّةً إِذَا كَانَ ذَلِكَ مُسْتَنِدًا إِلَى الِاسْتِدْلَالِ ; لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْأَحْكَامِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُحَالٌ، وَالْعَامِّيُّ لَيْسَ أَهْلًا لِلِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ مُعْتَبَرًا كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَ الْعَامِّيِّ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ خَطَأٌ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَالْمَقْطُوعُ بِخَطَئِهِ لَا تَأْثِيرَ لِمُوَافَقَتِهِ وَلَا لِمُخَالَفَتِهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الصَّحَابَةِ عُلَمَاؤُهُمْ وَعَوَامُّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِمُوَافَقَةِ الْعَامِّيِّ وَلَا بِمُخَالَفَتِهِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْأُمَّةَ إِنَّمَا عُصِمَتْ عَنِ الْخَطَأِ فِي اسْتِدْلَالِهَا ; لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ وَدَلِيلٍ خَطَأٌ، وَالْعَامِّيُّ لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِدْلَالِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ عِصْمَةِ الِاسْتِدْلَالِ فِي حَقِّهِ.
السَّادِسُ: هُوَ أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِصَابَةُ إِذَا (1) كَانَ قَائِلًا بِالْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ عِصْمَتُهُ ; لِأَنَّ الْعِصْمَةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْإِصَابَةِ.
(1) لَعَلَّ كَلِمَةَ: إِذَا مُحَرَّفَةٌ عَنْ إِذْ، فَإِنَّ الْمُنَاسِبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِلنَّفْيِ الَّذِي قَبْلَهَا لَا تَقْيِيدًا لَهُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الرُّجُوعُ إِلَى أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ دُونَهُ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الِاحْتِجَاجُ بِأَقْوَالِهِمْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مَشْرُوطًا بِمُوَافَقَةِ الْعَامَّةِ لَهُمْ (1) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَرْطًا فِي وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْعَامَّةِ لَهُمْ فِيمَا يُفْتُونَ بِهِ.
وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فِي الْإِجْمَاعِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ، لَكِنْ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ مُطْلَقًا: الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ.
وَعَلَى هَذَا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مُوَافَقَةُ الْعَامَّةِ لِلْعُلَمَاءِ الْمُسْتَدِلِّينَ شَرْطًا فِي جَعْلِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَامِّيُّ مُسْتَدِلًّا (2) ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ مُوَافَقَةِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ مُوَافَقَةِ الْعَامَّةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ فِي قُرْبٍ، وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ الْمُوجِبُ لِلتَّكْلِيفِ، وَبُعْدُهُ فِي حَقِّ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ الْمَانِعُ مِنَ التَّكْلِيفِ (3)
وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْعَامِّيِّ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ خَطَأً، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ كَوْنِ مُوَافَقَتِهِ لِلْعُلَمَاءِ فِي أَقْوَالِهِمْ شَرْطًا فِي الِاحْتِجَاجِ بِهَا عَلَى غَيْرِهِمْ (4) .
وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّهُ دَعْوَى لَمْ يَقُمْ عَلَيْهَا دَلِيلٌ (5)
وَعَنِ الْخَامِسِ: أَنَّ الْعَامِّيَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مُوَافَقَتُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ شَرْطًا فِي كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً.
(1) إِذَا سَلَّمَ الْمُعْتَرِضُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ مُعْتَبَرٌ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى رَأْيِهِ، إِذْ لَوْ رَأَى رَأَيًا بِالْخَرْصِ وَالتَّخْمِينِ كَانَ آثِمًا، فَكَيْفَ يُعْتَبَرُ شَرْطًا فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ مُوَافَقَتُهُ لِلْعُلَمَاءِ بِمَا هُوَ آثِمٌ بِهِ اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا فُهِمَ رَأْيُهُ عَنْ مُشَارَكَةٍ فِي الْبَحْثِ مَثَلًا فَهُوَ مُعْتَبَرٌ، وَلَيْسَ عَامِّيًّا فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ.
(2) جَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ.
(3) التَّفَاوُتُ بِقُرْبِ الْفَهْمِ، وَبُعْدُهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، وَإِنَّمَا يُعْتَدُّ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وُصُولُهُ بِالْفِعْلِ إِلَى قَوْلٍ نَتِيجَةً لِبَحْثِهِ، وَلَوْ لِمُشَارَكَةِ الْعُلَمَاءِ، وَإِذَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ لَيْسَ بِعَامِّيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ.
(4) جَوَابُهُ وَجَوَابُ الْخَامِسِ وَالسَّادِسِ مَا تَقَدَّمَ فِي جَوَابِ الِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ.
(5) دَلِيلُهُ الِاسْتِقْرَاءُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ أَنَّ خَلِيفَةً مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ اسْتَدْعَى عَامِّيًّا لِأَخْذِ رَأْيِهِ فِي قَضِيَّةٍ إِنَّمَا كَانُوا يَسْتَدْعُونَ الْعُلَمَاءَ، وَمَنْ فِيهِمْ أَهْلِيَّةٌ لِلنَّظَرِ.
وَعَنِ السَّادِسِ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْعَامِّيُّ إِذَا انْفَرَدَ بِالْحُكْمِ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِصَابَةُ، فَمَا الْمَانِعُ مِنْ تَصْوِيبِهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ بِتَقْدِيرِ مُوَافَقَتِهِ لَهُمْ فِي أَقْوَالِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَامِّيَّ مُصِيبٌ فِي مُوَافَقَتِهِ لِلْعُلَمَاءِ، وَعَلَى هَذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ مُوَافَقَتُهُ شَرْطًا فِي جَعْلِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ، غَيْرَ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْإِجْمَاعِ عِنْدَ دُخُولِ الْعَوَامِّ فِيهِ يَكُونُ قَطْعِيًّا وَبِدُونِهِمْ يَكُونُ ظَنِّيًّا (1)
وَعَلَى هَذَا فَمَنْ قَالَ بِإِدْخَالِ الْعَوَامِّ فِي الْإِجْمَاعِ، قَالَ بِإِدْخَالِ الْفَقِيهِ الْحَافِظِ لِأَحْكَامِ الْفُرُوعِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أُصُولِيًّا، وَبِإِدْخَالِ الْأُصُولِيِّ الَّذِي لَيْسَ بِفَقِيهٍ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، لِمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعَامَّةِ مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْأَهْلِيَّةِ وَصِحَّةِ النَّظَرِ، هَذَا فِي الْأَحْكَامِ، وَهَذَا فِي الْأُصُولِ.
وَمَنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْعَوَامِّ فِي الْإِجْمَاعِ اخْتَلَفُوا فِي الْفَقِيهِ وَالْأُصُولِيِّ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَمَنْ أَثْبَتَ نَظَرَ إِلَى مَا اشْتَمَلَا عَلَيْهِ مِنَ الْأَهْلِيَّةِ الَّتِي لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْعَامِّيِّ، وَدُخُولِهِمَا فِي عُمُومِ لَفْظِ الْأُمَّةِ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا.
وَمَنْ نَفَى نَظَرَ إِلَى عَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ كَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْفَقِيهِ وَالْأُصُولِيِّ وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَ قَوْلَ الْفَقِيهِ الَّذِي لَيْسَ بِأُصُولِيٍّ وَأَلْغَى قَوْلَ الْأُصُولِيِّ الَّذِي لَيْسَ بِفَقِيهٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ الْحَالَ وَاعْتَبَرَ قَوْلَ الْأُصُولِيِّ دُونَ الْفَقِيهِ ; لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى مَقْصُودِ الِاجْتِهَادِ لِعَمَلِهِ بِمَدَارِكِ الْأَحْكَامِ عَلَى اخْتِلَافِ أَقْسَامِهَا، وَكَيْفِيَّةِ دَلَالَاتِهَا وَكَيْفِيَّةِ تَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْ مَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومِهَا وَمَعْقُولِهَا بِخِلَافِ الْفَقِيهِ.
وَمَنِ اعْتَبَرَ قَوْلَ الْأُصُولِيِّ وَالْفَقِيهِ، اعْتَبَرَ قَوْلَ مَنْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَهِرًا بِالْفَتْوَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَذَلِكَ كَوَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ وَنَحْوِهِ، وَفِيهِ خِلَافٌ وَالْمُتَّبَعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ.
(1) فِيهِ أَنَّ الْمُؤَلِّفَ تَرَكَ مَا اخْتَارَهُ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ، وَنَزَلَ عَنْ مُقْتَضَى دَلِيلِهِ مِنَ اعْتِبَارِ مُوَافَقَةِ الْعَامِّيِّ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَحُجِّيَّتِهِ إِلَى اعْتِبَارِ مُوَافَقَتِهِ فِي قَطْعِيَّةِ الْإِجْمَاعِ، فَالْإِجْمَاعُ إِذَنْ بِدُونِ مُوَافَقَةِ الْعَامِّيِّ لِلْعُلَمَاءِ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ.