كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَجَدَ شَيئا بِمَشْهَدٍ مِنَ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ وانْفَرَدَ بِرِوَايَتِهِ عَنْ بَاقِي الْخَلْقِ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ وُجِدَ شَيْءٌ بِمَشْهَدٍ مِنَ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، إِذَا انْفَرَدَ الْوَاحِدُ بِرِوَايَتِهِ عَنْ بَاقِي الْخَلْقِ، كَمَا إِذَا أَخْبَرَ مُخْبِرٌ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ بِبَغْدَادَ قُتِلَ فِي وَسَطِ الْجَامِعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِمَشْهَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَلَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ فَذَهَبَ الْكُلُّ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ، خِلَافًا لِلشِّيعَةِ، وَهُوَ الْحَقُّ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ رَكَّزَ فِي طِبَاعِ الْخَلْقِ مِنْ تَوْفِيرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ مَا عَلِمُوهُ، وَالتَّحَدُّثِ بِمَا عَرَفُوهُ، حَتَّى إِنَّ الْعَادَةَ لَتُحِيلَ كِتْمَانَ مَا لَا يُؤْبَهُ لَهُ مِمَّا جَرَى مِنْ صِغَارِ الْأُمُورِ عَلَى الْجَمْعِ الْقَلِيلِ، فَكَيْفَ عَلَى الْجَمْعِ الْكَثِيرِ فِيمَا هُوَ مِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ وَمُهِمَّاتِهَا، وَالنُّفُوسُ مُشْرَئِبَّةٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَفِي نَقْلِهِ صَلَاحٌ لِلْخَلْقِ، بَلِ السُّكُوتُ عَنْ نَقْلِ ذَلِكَ وَإِشَاعَتِهِ فِي إِحَالَةِ الْعَادَةِ لَهُ أَشَدُّ مِنْ إِحَالَةِ الْعَادَةِ لِسُكُوتِهِمْ وَتَوَاطُئِهِمْ عَلَى عَدَمِ نَقْلِ وُجُودِ مَكَّةَ وَبَغْدَادَ.
فَلَوْ جَازَ كِتْمَانُ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُوجَدَ مِثْلُ مِصْرَ وَبَغْدَادَ وَلَمْ يُخْبِرْ أَحَدٌ
عَنْهُمَا وَذَلِكَ مُحَالٌ عَادَةً (1) .
وَبِمِثْلِ هَذَا عَرَفْنَا كَذِبَ مَنِ ادَّعَى مُعَارَضَةَ الْقُرْآنِ وَالتَّنْصِيصَ عَلَى إِمَامٍ بِعَيْنِهِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَوْ وُجِدَ ذَلِكَ لَشَاعَ وَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ (2) .
فَإِنْ قِيلَ: الْعَادَةُ إِنَّمَا تُحِيلُ اتِّفَاقَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ عَلَى كِتْمَانِ مَا جَرَى بِمَشْهَدٍ مِنْهُمْ مَنِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ، إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الدَّاعِي إِلَى الْكِتْمَانِ مُعَارِضًا لِدَاعِي الْإِظْهَارِ، وَلَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ، إِمَّا لِغَرَضٍ وَاحِدٍ يَعُمُّ الْكُلَّ نَظَرًا إِلَى مَصْلَحَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّ فِي أَمْرِ الْوِلَايَةِ وَإِصْلَاحِ الْمَعِيشَةِ، أَوْ خَوْفٍ وَرَهْبَةٍ مِنْ عَدُوٍّ غَالِبٍ وَمَلِكٍ قَاهِرٍ، أَوْ لِأَغْرَاضٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كُلُّ غَرَضٍ لِوَاحِدٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْوُقُوعُ.
وَهُوَ أَنَّ النَّصَارَى مَعَ كَثْرَتِهِمْ كَثْرَةً تَخْرُجُ عَنِ الْحَصْرِ، لَمْ يَنْقُلُوا كَلَامَ الْمَسِيحِ فِي الْمَهْدِ، مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَعْجَبِ حَادِثٍ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَإِشَاعَتِهِ وَنَقَلُوا مَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّاسَ نَقَلُوا أَعْلَامَ الرُّسُلِ، وَلَمْ يَنْقُلُوا أَعْلَامَ شُعَيْبٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ آحَادَ الْمُسْلِمِينَ قَدِ انْفَرَدُوا بِنَقْلِ مَا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ مَعَ شُيُوعِهِ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالْجَمْعِ الْكَثِيرِ، كَنَقْلِ مَا عَدَا الْقُرْآنَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ، كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَتَسْبِيحِ الْحَصَا فِي يَدِهِ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَحَنِينِ الْجِذْعِ إِلَيْهِ، وَتَسْلِيمِ الْغَزَالَةِ عَلَيْهِ، وَكَدُخُولِ مَكَّةَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا، وَتَثْنِيَةِ الْإِقَامَةِ وَإِفْرَادِهَا، وَإِفْرَادِهُ فِي الْحَجِّ، وَقِرَانِهِ وَنِكَاحِهِ لِمَيْمُونَةَ وَهُوَ حَرَامٌ، وَقَبُولِهِ لِشَهَادَةِ الْأَعْرَابِيِّ وَحْدَهُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْجَهْرِ بِالتَّسْمِيَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ الَّتِي لَا تُحْصَى.
(1) مُقْتَضَى دَلِيلِهِ إِحَالَةُ الْعَادَةِ كِتْمَانُ مَا تَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ صُدْفَةً أَوْ تَوَاطُؤًا، لَا وُجُوبَ نَقْلِهِ تَوَاتُرًا أَوِ اسْتِفَاضَةً كَمَا هِيَ الدَّعْوَى، وَعَلَيْهِ فَلَا يَمْتَنِعُ نَقْلُ وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ ذَلِكَ الْخَبَرَ وَإِشَاعَتُهُمَا إِيَّاهُ مَعَ اكْتِفَاءِ الْبَاقِينَ بِذَلِكَ، وَقَدْ يَسْتَفِيضُ نَقْلُهُ بَعْدُ، كَمَا فِي حَدِيثِ ” إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ” وَغَيْرِهِ مِمَّا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ.
(2) أَقُولُ لَوْ وُجِدَ ذَلِكَ لَنُقِلَ، وَلَوْ مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدٍ صَحِيحٍ، وَحَيْثُ لَمْ يَصِحَّ نَقْلُهُ وَلَوْ آحَادًا دَلَّ عَلَى كَذِبِهِ.
قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ اتِّفَاقَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ عَلَى كِتْمَانِ مَا يَجْرِي بَيْنَهُمْ مِنَ الْوَقَائِعِ الْعَظِيمَةِ.
قَوْلُهُمْ ذَلِكَ: إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ لَمْ يُوجَدِ الدَّاعِي إِلَى الْكِتْمَانِ.
قُلْنَا: وَالْكَلَامُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَادَةَ أَيْضًا تُحِيلُ اشْتِرَاكَ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ فِي الدَّاعِي إِلَى الْكِتْمَانِ، كَمَا يَسْتَحِيلُ اشْتِرَاكُهُمْ فِي الدَّاعِي إِلَى الْكَذِبِ، وَإِلَى أَكْلِ طَعَامٍ وَاحِدٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِشْهَادِ.
أَمَّا كَلَامُ عِيسَى فِي الْمَهْدِ، فَإِنَّمَا تَوَلَّى نَقْلَهُ الْآحَادُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ إِلَّا بِحَضْرَةِ نَفَرٍ يَسِيرٍ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَمْرُهُ قَدْ ظَهَرَ، وَلَا شَأْنُهُ قَدِ اشْتُهِرَ، وَلَا عُرِفَ بِرِسَالَةٍ وَلَا نُبُوَّةٍ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، فَإِنَّهُ كَانَ وَقْتَ اشْتِهَارِهِ وَدَعْوَاهُ الرِّسَالَةِ، مُسْتَدِلًّا بِذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ، وَتَطَلُّعِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَامْتِدَادِ الْأَعْيُنِ إِلَى مَا يَدَّعِيهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى كِتْمَانِهِ.
وَأَمَّا أَعْلَامُ شُعَيْبٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّمَا لَمْ يُنْقُلْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْعُوا حَتَّى يَسْتَدِلُّوا عَلَيْهَا بِالْمُعْجِزَاتِ (1) ، وَلَا كَانَ لَهُمْ شَرِيعَةٌ انْفَرَدُوا بِهَا، بَلْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الرُّسُلِ، كَدَعْوَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَآحَادِ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا نَقْلُ بَاقِي مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ غَيْرِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّمَا تَوَلَّاهُ الْآحَادُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِمَشْهَدٍ مِنَ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ، بَلْ إِنَّمَا جَرَى مَا جَرَى مِنْهُمْ بِحُضُورِ طَائِفَةٍ يَسِيرَةٍ، وَلَا سِيَّمَا انْشِقَاقُ الْقَمَرِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنَ الْآيَاتِ اللَّيْلِيَّةِ وَقَعَتْ، وَالنَّاسُ بَيْنَ نَائِمٍ وَغَافِلٍ فِي لَمْحِ الْبَصَرِ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَعَاهُمْ إِلَى رُؤْيَتِهِ وَلَا نَبَّهَهُمْ عَلَى
(1) انْظُرْ هَذِهِ الدَّعْوَى مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) عَطْفًا عَلَى مَعْمُولَيِ الْإِرْسَالِ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (لَقَدْ أَرْسَلَنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) وَعَطْفًا عَلَى مَعْمُولَيِ الْإِرْسَالِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ: (وَلَقَدْ أَرْسَلَنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) وَانْظُرْهَا أَيْضًا مَعَ قِصَّةِ شُعَيْبٍ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، وَفِيهَا: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ الْكِفَايَةَ فِي إِبْطَالِ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَلَوْ أَجَابَ بِأَنَّهَا لَمْ تُنْقُلِ اكْتِفَاءً بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ الصَّادِقِ، وَلِلْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ بِرِسَالَتِهِ لَكَانَ أَبْعَدَ لَهُ عَنِ الْمَزَالِقِ.
ذَلِكَ سِوَى مَنْ رَآهُ مِنَ النَّفَرِ الْيَسِيرِ (1) .
وَلِهَذَا، فَإِنَّهُ كَمْ مِنْ أَمْرٍ مَهُولٍ يَقَعُ فِي اللَّيْلِ، مِنْ زَلْزَلَةٍ أَوْ صَاعِقَةٍ أَوْ رِيحٍ عَاصِفٍ أَوِ انْقِضَاضِ شِهَابٍ عَظِيمٍ، وَلَا يَشْعُرُ بِهِ سِوَى الْآحَادِ (2) .
وَهَذَا بِخِلَافِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَدِّدُهُ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنَ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ فِي زَمَانِهِ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَهُ وَشَاهَدَهُ.
فَلِذَلِكَ اسْتَحَالَ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى عَدَمِ نَقْلِهِ (3) .
وَأَمَّا دُخُولُ مَكَّةَ، فَقَدْ نَقَلَهُ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ، وَهُوَ مُسْتَفِيضٌ مَشْهُورٌ، أَنَّهُ دَخَلَهَا عَنْوَةً مُتَسَلِّحًا بِالْأَلْوِيَةِ وَالْأَعْلَامِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، مَعَ بَذْلِ الْأَمَانِ لِمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ، وَاعْتَصَمَ بِالْكَعْبَةِ وَدَارِ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِنَّمَا خَالَفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَمَّا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِأَدَاءِ دِيَةِ مَنْ قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَلَا يَبْعُدُ ظَنُّ ذَلِكَ مِنَ الْآحَادِ.
(1) لَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ حَنِينَ الْجِذْعِ كَانَ بِحَضْرَةِ جَمْعٍ عَظِيمٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَنَبْعَ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِحَضْرَةِ الْجَيْشِ، وَقَدِ انْتَفَعُوا بِالْمَاءِ شُرْبًا وَطَهَارَةً وَتَزَوَّدُوا مِنْهُ، وَزَالَتْ بِهِ شِدَّتُهُمْ، وَمَعَ ذَلِكَ نُقِلَ آحَادًا.
(2) مَتَّى سَلِمَ أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ، وَأَنَّهُ آيَةٌ قُصِدَ بِهَا إِقَامَةُ الْحُجَّةِ أَوْ تَقْوِيَتُهَا، اسْتَحَالَ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَالنَّاسُ بَيْنَ نَائِمٍ وَغَافِلٍ مُدَّةَ لَمْحِ الْبَصَرِ، دُونَ دَعْوَةٍ لِرُؤْيَتِهِ، وَلَا تَنْبِيهٍ لِمُشَاهَدَتِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ شَاهِدُهُ كَثِيرًا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ نُقِلَ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا، بَلْ مُتَوَاتِرًا مَعْنًى وَإِنْ لَمْ يَتَوَاتَرْ لَفْظًا، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ يُقَالُ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ اسْتَغْنَى بِذِكْرِهِ فِي الْقُرْآنِ عَنْ نَقْلِهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الزَّلَازِلِ وَالشُّهُبِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّهُمَا سُنَنٌ كَوْنِيَّةٌ عَامَّةٌ قَدْ صَارَتْ لِكَثْرَتِهَا عَادِيَّةٌ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِهَا إِثْبَاتَ رِسَالَةٍ أَوْ تَقْوِيَتَهَا، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ أَمْرُهُمَا عَمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالشَّاذُّ مِنْهَا الَّذِي يَسْتَرْعِي الْأَنْظَارَ قَدْ يُنْقَلُ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا.
(3) اسْتِحَالَةُ التَّوَاطُؤِ عَلَى عَدَمِ النَّقْلِ تُصَدَّقُ بِالنَّقْلِ تَوَاتُرًا كَالْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ، وَاسْتِفَاضَةً كَمَا فِي فَتْحِ مَكَّةَ عَنْوَةً، وَآحَادًا وَهُوَ كَثِيرٌ حَتَّى فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَتَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ؛ إِذِ الْمُسْتَحِيلُ أَلَّا تَنْقُلَهُ أَصْلًا، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ.
وَأَمَّا تَثْنِيَةُ الْإِقَامَةِ وَإِفْرَادُهَا، فَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ كَانَ يُفْرِدُ تَارَةً، وَيُثَنِّي أُخْرَى، فَنَقَلَ كُلٌّ بَعْضَ مَا سَمِعَهُ، وَأَهْمَلَ الْبَاقِيَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ مِنَ الْفُرُوعِ الْمُتَسَامَحِ فِيهَا، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنِ الْجَهْرِ بِالتَّسْمِيَةِ وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا إِفْرَادُ النَّبِيِّ وَقِرَانُهُ فِي الْحَجِّ، فَإِنَّمَا نَقَلَهُ الْآحَادُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّيَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ ظُهُورُهُ وَمُنَادَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ (1) .
وَأَمَّا نِكَاحُهُ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ حَرَامٌ، فَلَيْسَ ذَلِكَ أَيْضًا مِمَّا يَجِبُ إِظْهَارُهُ، بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ جَمَاعَةٍ يَسِيرَةٍ، فَلِذَلِكَ انْفَرَدَ بِهِ الْآحَادُ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْأَعْرَابِيِّ وَحْدَهُ.