كتاب: التبيان في آداب حملة القرآن
المؤلف: أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676هـ)
الباب السادس في آداب القرآن
[فصل] في قراءة يراد بها الكلام
ذكر ابن أبي داود في هذا اختلافا وروي عن ابراهيم النخعي رضي الله عنه انه كان يكره أن يقال القرآن بشئ يعرض من أمر الدنيا وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قرأ في صلاة المغرب بمكة والتين والزيتون ورفع صوته وقال وهذا البلد الأمين وعن حكيم بضم الحاء بن سعد ان رجلا من المحكمية أتى عليا رضي الله عنه وهو في صلاة الصبح فقال لئن أشركت ليحبطن عملك فأجابه علي في الصلاه (فاصبر ان وعد الله حق ولا يستخفنك الذي لا يوقنون) قال أصحابنا إذا استأذن انسان على المصلي فقال المصلي (ادخلوها بسلام آمنين فإن أراد التلاوة وأراد الإعلام لم تبطل صلاته وان أراد الاعلام ولم يحضره نية بطلت صلاته
حكم القيام
[فصل] وإذا ورد على القارئ من فيه فضيلة
من علم أو شرف أو سن مع صيانة أو له حرمة بولاية او ولادة او غيرها فلا بأس بالقيام له على سبيل الاحترام والاكرام لا للرياء والاعظام بل ذلك مستحب وقد ثبت القيام للاكرام من فعل النبي صلى الله عليه وسلم: وفعل أصحابه رضي الله عنهم بحضرته وبأمره ومن فعل التابعين ومن بعدهم من العلماء الصالحين وقد جمعت جزءا في القيام وذكرت فيه الأحاديث والآثار الواردة باستحبابه وبالنهي عنه وبينت ضعف الضعيف منها وصحة الصحيح والجواب عما يتوهم منه النهي وليس فيه نهي وأوضحت ذلك كله بحمد الله تعالى فمن تشكك في شئ من أحاديثه فليطالعه فلا يجد ما يزول به شكه ان شاء الله تعالى
حكم السلام
[فصل] إذا كان يقرأ ماشيا فمر على قوم
يستحب ان يقطع القراءة ويسلم عليهم ثم يرجع الى القراءة ولو أعاد التعوذ كان حسنا ولو كان يقرأ جالسا فمر عليه غيره فقد قال الامام ابو الحسن الواحدي الأولى ترك السلام على القارئ لاشتغاله بالتلاوة قال فان سلم عليه إنسان كفاه الرد بالاشارة قال فان أراد الرد باللفظ رده ثم استأنف الاستعاذة وعاود التلاوة وهذا الذي قاله ضعيف والظاهر وجوب الرد باللفظ فقد قال أصحابنا إذا سلم الداخل يوم الجمعة في حال الخطبة وقلنا الإنصات سنة وجب له رد السلام على أصح الوجهين فاذا قالوا هذا في حال الخطبة مع الاختلاف في وجوب الإنصات وتحريم الكلام ففي حال القراءة التي لا يحرم الكلام فيها بالاجماع اولى
مع ان رد السلام واجب بالجملة والله أعلم وأما اذا عطس في حال القراءة فانه يستحب ان يقول الحمد لله وكذا لو كان في الصلاة ولو عطس غيره وهو يقرأ في غير الصلاة وقال الحمد لله يستحب للقارئ ان يشمته فيقول يرحمك الله
ولو سمع المؤذن قطع القراءة وأجابه بمتابعته في ألفاظ الأذان والاقامة ثم يعود الى قراءته وهذا متفق عليه عند أصحابنا واما إذا طلبت منه حاجة في حال القراءة وأمكنه جواب السائل بالاشارة المفهمة وعلم أنه لا ينكسر قلبه ولا يحصل عليه شئ من الأذى للأنس الذي بينها بينهما ونحوه فالأولى ان يجيبه بالاشارة ولا يقطع القراءة فان قطعها جاز والله أعلم
أحكام نفيسة
[فصل] في أحكام نفيسة تتعلق بالقراءة في الصلاة
أبالغ في اختصارها فانها مشهورة في كتب الفقه
منها أنه يجب القراءة في الصلاة المفروضة بإجماع العلماء ثم قال مالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء تتعين قراءة الفاتحة في كل ركعة وقال أبو حنيفة وجماعة لا تتعين الفاتحة أبدا قال ولا تجب قراءة الفاتحة في الركعتين الأخيرتين والصواب الأول فقد تظاهرت عليها الادلة من السنة ويكفي من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: في الحديث الصحيح
ولا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن وأجمعوا على استحباب قراءة السورة بعد الفاتحة في ركعتي الصبح والاولتين من باقي الصلوات واختلفوا في استحبابها في الثالثة والرابعة وللشافعي فيها قولان الجديد انها لا تستحب والقديم انها تستحب قال أصحابنا وإذا قلنا إنها تستحب فلا خلاف أنه يستحب أن يكون أقل من القراءة في الأولتين قالوا وتكون القراءة في الثالثة والرابعية منه سواء وهل تطول الاولى على الثانية فيها وجهان أصحهما عند جمهور أصحابنا أنها لا تطول
والثاني وهو الصحيح عند المحققين أنها تطول وهو المختار للحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يطول في الأولى ما لا يطول في الثانية وفائدته أن يدرك المتأخر الركعة الأولى والله أعلم قال الشافعي رحمه الله وإذا أدرك المسبوق مع الامام الركعتين الأخيرتين من الظهر وغيرها ثم قام إلى الإتيان بما بقي عليه استحب أن يقرأ السورة قال الجماهير من أصحابنا هذا على القولين وقال بعضهم هذا على قوله يقرأ السورة في الأخيرتين أما على الآخر فلا والصواب الأول لئلا تخلو صلاته من سورة والله أعلم هذا حكم الإمام المنفرد أما المأموم فان كانت صلاته سرية وجبت عليه الفاتحة واستحب له السورة وان كانت جهرية فان كان يسمع قراءة الامام كره له قراءة السورة وفي وجوب الفاتحة قولان 1 – أصحهما تجب 2 – والثاني لا تجب
وان كان لا يسمع القراءة فالصحيح وجوب الفاتحة واستحباب السورة وقيل تجب ولا تستحب السورة والله أعلم وتجب قراءة الفاتحة في الركعة الاولى من صلاة الجنازة وأما قراءة الفاتحة في صلاة النافلة فلا بد منها * واختلف أصحابنا في تسميتها فيها فقال القفال تسمى واجبة * وقال صاحبه القاضي حسين تسمى شرطا * وقال غيرهما تسمى ركنا وهو الاظهر والله أعلم والعاجز عن الفاتحة في هذا كله يأتي ببدلها فيقرأ بقدرها من غيرها من القرآن فان لم يحسن أتى بقدرها من الأذكار كالتسبيح والتهليل ونحوهما فان لم يحسن شيئا وقف بقدر القراءة والله أعلم
[فصل] لا بأس بالجمع بين سورتين في ركعة واحدة
فقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقرن بينهن فذكر عشرين سورة من المفصل كل سورتين في ركعة وقد قدمنا عن جماعة من السلف قراءة الختمة في ركعة واحدة
حكم الجهر (2)
[فصل] أجمع المسلمون على استحباب الجهر بالقراءة في
الصبح والجمعة والعيدين والاولتين من المغرب والعشاء وفي صلاة التراويح والوتر عقيبها
وهذا مستحب للإمام والمنفرد بما ينفرد به منها وأما المأموم فلا يجهر بالاجماع ويسن الجهر في صلاة كسوف القمر ولا يجهر في كسوف الشمس ويجهر في الاستقاء ولا يجهر في الجنازة إذا صليت بالنهار وكذا في الليل على المذهب الصحيح المختار ولا يجهر في نوافل النهار غير ما ذكرناه من العيد والاستقاء واختلف أصحابنا في نوافل الليل
- 1 – فالأظهر انه لا يجهر
- 2 – والثاني أنه يجهر
- 3 – والثالث وهو الأصح وبه قطع القاضي حسين والبغوي يقرأ بين الجهر والاسرار
ولو فاته صلاة بالليل فقضاها بالنهار أو بالنهار فقضاها بالليل فهل يعتبر في الجهر والإسرار وقت الفوات أم وقت القضاء
فيه وجهان لأصحابنا أظهرهما الاعتبار بوقت القضاء ولو جهر في موضع الاسرار أو أسر في موضع الجهر فصلاته صحيحة ولكنه ارتكب المكروه ولا يسجد للسهو
تنبيه
واعلم ان الاسرار في القراءة والتكبيرات وغيرهما من الأذكار هو أن يقوله بحيث يسمع نفسه ولا بد من نطقه بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع ولا عارض له فان لم يسمع نفسه لم تصح قراءته ولا غيرها من الاذكار بلا خلاف الحديث على السكتات
[فصل] قال أصحابنا يستحب للامام في الصلاة الجهرية أن يسكت أربع سكتات في حال القيام
- 1 – إحداها أن يسكت بعد تكبيرة الإحرام ليقرأ دعاء التوجه وليحرم المأمومون
- 2 – والثانية عقيب الفاتحة سكتة لطيفة جدا بين آخر الفاتحة وبين آمين لئلا يتوهم أن آمين من الفاتحة
- 3 – والثالثة بعد آمين سكتة طويلة بحيث يقرأ المأمومون الفاتحة
- 4 – والرابعة بعد الفراغ من السورة يفصل بها بين القراءة وتكبير الهوي إلى الركوع
التأمين
[فصل] يستحب لكل قارئ كان في الصلاة أو في غيرها إذا فرغ من الفاتحة أن يقول أمين
والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة وقد قدمنا في الفصل قبله أنه يستحب أن يفصل بين آخر الفاتحة وآمين بسكتة لطيفة ومعناه اللهم استجب وقيل كذلك فليكن وقيل افعل وقيل معناه لا يقدر على هذا أحد سواك وقيل معناه لا تخيب رجاءنا وقيل معناه اللهم أمنا بخير وقيل هو طابع لله على عباده يدفع به عنهم الآفات وقيل هي درجة في الجنه يستحقها قائلها وقيل هو اسم من أسماء الله تعالى وأنكر المحققون والمجاهير هذا وقيل هو اسم عبراني غير معرب وقال أبو بكر الوراق هو قوة للدعاء واستنزال للرحمة وقيل غير ذلك وفي آمين لغات قال العلماء أفصحها آمين بالمد وتخفيف
الميم والثانية بالقصر وهاتان مشهورتان والثالثة آمين بالامالة مع المد حكاها الواحدي عن حمزة والكسائي والرابعة بتشديد الميم مع المد حكاها عن الحسن والحسين ابن الفضيل قال ويحقق ذلك ما روي عن جعفر الصادق رضي الله عنه قال معناه قاصدين نحوك وأنت أكرم من أن تخيب قاصدا هذا كلام الواحدي وهذه الرابعة غريبة جدا فقد عدها أكثر أهل اللغة من لحن العوام وقال جماعة من أصحابنا من قالها في الصلاة بطلت صلاته قال أهل العربية حقها في العربية الوقف لأنها بمنزلة الاصوات فإذا وصلها فتح النون لالتقاء الساكنين كما فتحت في أين وكيف فلم تكسر لثقل الكسرة بعد الياء فهذا مختصر مما يتعلق بلفظ آمين وقد بسطت القول فيها بالشواهد وزيادة الاقوال في كتاب (تهذيب: الأسماء واللغات] قال العلماء ويستحب التأمين في الصلاة للامام والمنفرد ويجهر الإمام والمنفرد بلفظ آمين في صلاة الجهرية واختلفوا في جهر المأموم * والصحيح أنه يجهر * والثاني لا يجهر * والثالث يجهر إن كان جمعا كثيرا وإلا فلا * ويكون تأمين المأموم مع تأمين الإمام لا قبله ولا بعده لقول النبي صلى الله عليه وسلم: في الصحيح
إذا قال الامام ولا الضالين فقولوا آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وأما قوله صلى الله عليه وسلم: في الصحيح إذا أمن الإمام فأمنوا فمعناه إذا أراد التأمين قال أصحابنا وليس في الصلاة موضع يستحب أن يقترن قول المأموم بقول الامام إلا في قوله آمين وأما في الأقوال الباقية فيتأخر قول المأموم