مختصر زاد المعاد لابن القيم
دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة
( فصل ) | ولما دعا إلى الله ، استجاب له عباد الله من كل قبيلة ، فكان حائز قصب سبقهم صديق الأمة أبو بكر ، فآزره في دين الله ،
ودعا معه إلى الله ، فاستجاب لأبي بكر عثمان وطلحة وسعد .
وبادرت إلى الاستجابة صدّيقة النساء خديجة ، وقامت بأعباء الصدّيقية ، وقال لها : ‘ لقد خشيت على نفسي ‘ فقالت : أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً .
ثم استدلت بما فيه من الصفات على أن من كان كذلك ، لم يخزه الله أبداً ، فعلمت بفطرتها ، وكمال عقلها أن الأعمال الصالحة ، والأخلاق الفاضلة تناسب كرامة الله وإحسانه ، لا تناسب الخزي .
وبهذا العقل استحقت الصديقة أن يرسل إليها ربها السلام منه مع رسوليه جبريل ومحمد عليهما السلام .
وبادر إلى الإسلام علي بن أبي طالب ، وهو ابن ثمان سنين ، وقيل : أكثر . وكان في كفالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه من عمه إعانة له في سنةِ محْلٍ .
وبادر زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان غلاماً لخديجة ، فوهبته له ،
وجاء أبوه وعمه في فدائه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ‘ فهلاّ غير ذلك ‘ فأخيره ، فإن اختاركم فهو لكم ، وإن اختارني ، فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحداً ‘
قالا : قد رددتنا على النصف ، وأحسنت . فدعاه فخيره ، فقال : ما أنا بالذي أختار عليك أحداً .
قالا : ويحك يا زيد ، أتختار العبودية على الحرية ، وعلى أهل بيتك ؟
قال : نعم لقد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً ،
فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه إلى الحجر ، فقال : ‘ أشهدكم أن زيداً ابني أرثه ويرثني ‘ ،
فلما رأيا ذلك طابت نفوسهما وانصرفا ،
ودعي زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام ، فنزلت : ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ‘ سورة الأحزاب : 5 ‘
فدعي من يومئذ زيد بن حارثة .
قال معمر عن الزهري : ما علمنا أحداً أسلم قبل زيد .
وأسلم ورقة بن نوفل ، وفي ‘ جامع الترمذي ‘ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه في المنام في هيئة حسنة .
ودخل الناس في دين الله واحداً بعد واحد ، وقريش لا تنكر ذلك حتى بادأهم بعيب دينهم ، وسب آلهتهم ، فحينئذ شمّروا له ولأصحابه عن ساق العداوة ، فحمى الله رسوله بأبي طالب ، لأنه كان شريفاً معظماً فيهم ،
وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه لما في ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها .
وأما أصحابه ، فمن كانت له عشيرة تحميه ، امتنع بهم ، وسائرهم تصدوا له بالعذاب ،
ومنهم عمار وأمه وأهل بيته ، فإنهم عذبوا في الله ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم وهم يعذبون يقول : ‘ صبراً يا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة ‘
ومنهم بلال ، فإنه عذب في الله أشد العذاب ، هان عليهم ، وهانت عليه نفسه في الله ، وكان كلما اشتد به العذاب يقول : أحد أحد .
فيمر به ورقة بن نوفل ، فيقول : إي والله يا بلال أحد أحد ، أما والله لئن قتلتموه لأتخذنّه حناناً .
الهجرة الأولى إلى الحبشة
ولما اشتد أذاهم على المؤمنين ، وفُتن منهم من فتن ، أذن الله سبحانه لهم في الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة ، وكان أول من هاجر إليها عثمان ، ومعه زوجته رُقَيّةُ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وكانوا اثني عشر رجلاً ، وأربع نسوة خرجوا متسللين سراً فوفق الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين ، فحملوهم ،
وكان مخرجهم في رجب من السنة الخامسة من المبعث ، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاؤا ساحل البحر ، فلم يدركوهم ،
ثم بلغهم أن قريشاً قد كفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعوا ، فلما كانوا دون مكة بساعة ، بلغهم أنهم أشد ما كانوا عداوة ، فدخل من دخل منهم بجوار .
وفي تلك المرة دخل ابن مسعود ، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة ، فلم يرد عليه ، هذا هو الصواب ، كذا قال ابن إسحاق قال فلما بلغهم أن ذلك باطل ، لم يدخل أحد منهم إلا بجوار أو مستخفياً ،
وكان ممن قدم منهم ، فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة ، فشهد بدراً ، وأحداً .
فذكر منهم ابن مسعود .
وحديث زيد بن أرقم أجيب عنه بجوابين :
أحدهما : أن النهي ثبت بمكة ، ثم أذن فيه بالمدينة ، ثم نهى عنه .
الثاني : أن زيداً من صغار الصحابة ،
وكان هو وجماعة يتكلمون في الصلاة على عادتهم ، ولم يبلغهم النهي ، فلما بلغهم انتهوا .
ثم اشتد البلاء من قريش على من قدم من الحبشة وغيرهم ، وسطت بهم عشائرهم ،
الهجرة الثانية إلى الحبشة
فأَذِنَ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية ، فكان خروجهم الثاني أشق عليهم ،
ولقوا من قريش أذى شديداً ، وصعب عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره لهم .
فكان عدة من خرج في هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلا إن كان عمار بن ياسر فيهم ، ومن النساء تسع عشرة امرأة ،
قلت : قد ذكر في هذه الثانية عثمان وجماعة ممن شهد بدراً ، فإما أن يكون وهماً ، وإما أن تكون لهم قدمة أخرى قبل بدر ، فيكون لهم ثلاث قدمات ،
ولذلك قال ابن سعد وغيره ، إنهم لما سمعوا مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً ، ومن النساء ثمان ، فمات منهم رجلان بمكة ، وحبس بمكة سبعةٌ وشهد بدراً منهم أربعة وعشرون رجلاً ،
فلما كان شهر ربيع الأول سنة سبع من الهجرة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام مع عمرو بن أمية فأسلم ، وقال : لو قدرت أن آتيه لأتيتهُ ،
وكتب إليه أن يزوّجه أم حبيبة ، وكانت فيمن هاجر مع زوجها عبيد الله بن جَحْش ، فتنصر هناك ، ومات نصرانياً ، فزوجه النجاشي إياها ، وأصدقها عنه أربعمائة دينار ، وكان الذي ولي تزويجها خالد بن سعيد بن العاص ،
وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه من بقي عنده من أصحابه ، ويحملهم ، فحملهم في سفينتين مع عمرو بن أمية ، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ، فوجدوه قد فتحها .
وعلى هذا فيزول الإشكال الذي بين حديث ابن مسعود ، وحديث زيد بن أرقم ، ويكون تحريم الكلام بالمدينة ،
فإن قيل : فما أحسنه لولا أن ابن إسحاق قد قال ما حكيتم عنه أن ابن مسعود أقام بمكة ؟
قيل : قد ذكر ابن سعد أنه أقام بمكة يسيراً ، ثم رجع إلى الحبشة ، وهذا هو الأظهر ، لأنه لم يكن له بمكة من يحميه ، فتضمن هذا زيادة أمر خفي على ابن إسحاق ،
وابن إسحاق لم يذكر من حدثه ، وابن سعد أسنده إلى المطلب بن عبد الله بن حنطب ، فزال الإشكال ولله الحمد .
وقد ذكر ابن إسحاق في هذه الهجرة أبا موسى الأشعري ، وأنكر هذا عليه الواقدي وغيره ، وقالوا : كيف يخفى هذا على من دونه ؟
قلت ؛ ليس هذا مما يخفى على من دونه فضلاً عنه ؟ !
وإنما نشأ الوهم أن أبا موسى هاجر من اليمن إلى عند جعفر وأصحابه ، ثم قدم معهم ، فعده ابن إسحاق لأبي موسى هجرة ، ولم يقل : إنه هاجر من مكة لينكر عليه .
تعقب قريش لمن هاجر إلى الحبشة
( فصل ) | وانحاز المسلمون إلى النجاشي آمنين ، فبعثت قريش في آثارهم عبد الله ابن أبي ربيعة ، وعمرو بن العاص بهدايا للنجاشي ليردهم عليهم ، وتشفعوا إليه بعظماء جنده ، فأبى ذلك ،
فوشوا إليه أنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً ، يقولون : إنه عبد ، فاستدعاهم ومقدَّمُهُم جعفر بن أبي طالب ،
فلما أرادوا الدخول عليه ، قال جعفر : يستأذن عليك حزب الله ، فقال للآذن : قل له يعيد استئذانه . فأعاده .
فلما دخلوا ، قال : ما تقولون في عيسى ؟ فتلا عليه جعفر صدراً من ( كهيعص ) فأخذ النجاشي عوداً من الأرض ، فقال : ما زاد عيسى على هذا ولا مثل هذا العود ، فتناخرت بطارقته حوله ، قال : وإن نخرتم ، وإن نخرتم .
قال : اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي ، من سبّكم غرم . والسيوم بلسانهم الآمنون .
وقال للرسولين : لو أعطيتموني دبراً من ذهب – يقول : جبلا من ذهب – ما أسلمتهم إليكما .
ثم أمر ، فردت عليهما هداياهما ، ورجعا مقبوحين .
ثم أسلم حمزة وجماعة كثيرون ، فلما رأت قريش أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلو الأمور ، أجمعوا على أن يتعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب أن لا يبايعوهم ، ولا يناكحوهم ، ولا يكلموهم ، ولا يجالسوهم حتى يُسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وكتبوا بذلك صحيفة ، وعلَّقوها في سقف الكعبة كتبها بغيض بن عامر بن هاشم ،
فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشلّت يده ، فانحازوا مؤمنهم وكافرهم إلى الشِّعْبِ إلا أبا لهب ، فإنه ظاهر قريشاً عليهم ، وذلك سنة سبع من البعثة ،
وبقوا محبوسين مضيّقاً عليهم جداً نحو ثلاث سنين ، حتى بلغهم الجهد ، وسمع أصواتُ صبيانهم بالبكاء من وراء الشعب .
وهناك عمل أبو طالب قصيدته اللامية ، وقريش بين راضٍ وكاره ، فسعى في نقضها كل من كان كارهاً لها ، واطلع الله رسوله على أمر صحيفتهم وأنه سلّط عليها الأرضة ، فأكلت ما فيها من قطيعةٍ وظلم إلا ذكر الله عز وجل ،
فأخبر بذلك عمه ، فخرج إلى قريش وأخبرهم ، وقال : إن كان كاذباً خلَّينا بينكم وبينه ، وإن كان صادقاً رجعتم .
قالوا : أنصفت . فأنزلوها ، فلما رأوا الأمر كذلك ، ازدادوا كفراً إلى كفرهم .
عام الحزن وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب ، ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر ، وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام ، وقيل غير ذلك ، فاشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفهاء قومه ،
فخرج إلى الطائف رجاء أن ينصروه عليهم ، ودعا إلى الله ، فلم ير من يؤوي ، ولم ير ناصراً ، وآذوه أشد الأذى ، ونالوا منه ما لم ينل قومه ، ومعه زيد بن حارثة ،
فأقام بينهم عشرة أيام لا يدع أحداً من أشرافهم إلا كلمه ، فقالوا : اخرج من بلدنا .
وأغروا به سفهاءهم ، فوقفوا له سماطين ، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه ، وزيد يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج في رأسه ، فانصرف إلى مكة محزوناً .
وفي مرجعه ذلك دعا بالدعاء المشهور : ‘ اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ‘ الخ . . . .
فأرسل ربه تبارك وتعالى إليه مَلَكَ الجبال يستأمره أن يُطبق الأخشبين على أهل مكة ، وهما جبلاهما اللذان هي بينهما ،
فقال : ‘ بل أستأني بهم لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً ‘ .
فلما نزل بنخلة في مرجعه ، قام يصلي من الليل ، فصرف الله إليه نفراً من الجن ، فاستمعوا قراءته ولم يشعر بهم حتى نزل عليه : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن .. الآية ‘ سورة الأحقاف : 29 ‘
وأقام بنخلة أياماً ، قال له زيد : كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك ؟ يعني قريشاً قال : ‘ يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً ، وإن الله ناصر دينه ، ومظهر نبيه ‘ .
فلما انتهى إلى مكة ، أرسل رجلاً من خزاعة إلى مطعم بن عدي ‘ أدخل في جوارك ‘ ؟ فقال : نعم .
فدعا بنيه وقومه ، وقال : البسوا السلاح ، وكونوا عند أركان البيت ، فإني قد أجرتُ محمداً .
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام ، فقام المطعم على راحلته ، فنادى : يا معشر قريش إني قد أجرتُ محمداً ، فلا يهجه أحد منكم .
فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن ، فاستلمه ، وصلى ركعتين ، وانصرف إلى بيته ومطعم وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته .