كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ قَبُولِ الْخَبَرِ الْمُرْسَلِ]
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ.
اخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ الْخَبَرِ الْمُرْسَلِ وَصُورَتِهِ، مَا إِذَا قَالَ مَنْ لَمْ يَلْقَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ عَدْلًا ” قَالَ رَسُولُ اللَّهِ “.
فَقَبِلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَجَمَاهِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي هَاشِمٍ.
وَفَصَلَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فَقَبِلَ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ، وَمَنْ هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْلِ مُطْلَقًا، دُونَ مَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ الْمُرْسَلُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ أَوْ مُرْسَلًا قَدْ أَسْنَدَهُ غَيْرُ مُرْسِلِهِ أَوْ أَرْسَلَهُ رَاوٍ آخَرُ يَرْوِي عَنْ غَيْرِ شُيُوخِ الْأَوَّلِ، أَوْ عَضَّدَهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ، أَوْ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرْسِلُ قَدْ عُرِفَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ عَمَّنْ فِيهِ عِلَّةٌ مِنْ جَهَالَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، كَمَرَاسِيلِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، فَهُوَ مَقْبُولٌ وَإِلَّا فَلَا.
وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ (1) وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
وَالْمُخْتَارُ قَبُولُ مَرَاسِيلِ الْعَدْلِ مُطْلَقًا، وَدَلِيلُهُ الْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ أَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِ الْمَرَاسِيلِ مِنَ الْعَدْلِ:
(1) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ الْبَاقِلَّانِيُّ
أَمَّا الصَّحَابَةُ فَإِنَّهُمْ قَبِلُوا أَخْبَارَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ مَعَ كَثْرَةِ رِوَايَتِهِ.
وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سِوَى أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ، لِصِغَرِ سِنِّهِ (1) .
وَلَمَّا رَوَى عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» ، وَأَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – «لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى حَجَرَ الْعَقَبَةِ» .
قَالَ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ، لَمَّا رُوجِعَ فِيهِ: أَخْبَرَنِي بِهِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَالَ فِي الْخَبَرِ الثَّانِي: أَخْبَرَنِي بِهِ أَخِي الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ (2) .
وَأَيْضًا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ قَالَ: ” «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ، فَلَهُ قِيرَاطٌ» ” وَأَسْنَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَأَيْضًا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ” «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فِي رَمَضَانَ فَلَا صَوْمَ لَهُ ” وَقَالَ: مَا أَنَا قُلْتُهُ، وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا قَالَهُ» ، فَلَمَّا رُوجِعَ فِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ.
وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَا كُلُّ مَا نُحَدِّثُكُمْ بِهِ سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ سَمِعْنَا بَعْضَهُ، وَحَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا بِبَعْضِهِ.
وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَقَدْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ إِرْسَالُ الْأَخْبَارِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ إِذَا حَدَّثْتَنِي فَأَسْنِدْ، فَقَالَ: إِذَا قُلْتُ لَكَ حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَهُوَ الَّذِي حَدَّثَنِي، وَإِذَا قُلْتُ لَكَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، فَقَدْ حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ عَنْهُ، وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ رَوَى حَدِيثًا، فَلَمَّا رُوجِعَ فِيهِ قَالَ: (أَخْبَرَنِي بِهِ سَبْعُونَ بَدْرِيًّا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا اشْتُهِرَ مِنْ إِرْسَالِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ مَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إِجْمَاعًا (3) .
(1) قَدْ يُقَالُ إِنَّمَا قَبِلُوا أَخْبَارَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَمْلًا لَهَا عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الِاتِّصَالِ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي رِوَايَةِ كُلِّ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالتَّدْلِيسِ إِذَا رَوَى عَمَّ لَقِيَهُ بِصِيغَةٍ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي الِاتِّصَالِ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ لِصِغَرِ سِنِّهِ، فَدَعْوَى يَرُدُّهَا الْوَاقِعُ، انْظُرْ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ
(2) انْظُرْ تَخْرِيجَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْمُرَاجَعَةِ فِي تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ لِابْنِ حَجَرٍ وَنَصْبِ الرَّايَةِ
(3) أَقُولُ إِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الرِّوَايَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِرْسَالِ، وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُرْسَلَةُ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ سُكُوتَهُمْ مُوَافَقَةٌ لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ، مِنْ أَهَمِّهَا احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ لِكُلِّ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَالْكَلَامُ فِي مِثْلِهَا بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ، إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْبَحْثِ، وَالْمُنَاظَرَةُ دُونَ الْإِنْكَارِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ سُكُوتَهُمْ مُوَافَقَةٌ، فَهُوَ إِجْمَاعٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، إِذِ النِّزَاعُ هُنَا فِي حُكْمِ الْعَمَلِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُرْسَلُ مِنَ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ هُوَ إِجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالنِّزَاعُ فِيهِ قَائِمٌ، وَلَيْسَ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى رَفْعِهِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْعَدْلَ الثِّقَةَ إِذَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كَذَا، مُظْهِرًا لِلْجَزْمِ بِذَلِكَ، فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَجِيزُ ذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ عَالِمٌ أَوْ ظَانٌّ أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ ذَلِكَ.
فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ظَانًّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْهُ، أَوْ كَانَ شَاكًّا فِيهِ، لَمَا اسْتَجَازَ فِي دِينِهِ النَّقْلَ الْجَازِمَ عَنْهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْكَذِبِ وَالتَّدْلِيسِ عَلَى الْمُسْتَمِعِينَ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَعْدِيلَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ عَالِمًا وَلَا ظَانًّا بِصِدْقِهِ فِي خَبَرِهِ (1) .
فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ الْإِجْمَاعَ، وَدَلِيلُهُ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ: أَمَّا الْإِجْمَالُ فَهُوَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَالْإِجْمَاعَ قَاطِعٌ، فَلَا يُسَاعِدُ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ فَهُوَ أَنَّ غَايَةَ مَا ذَكَرَ مَصِيرُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ إِلَى الْإِرْسَالِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى إِجْمَاعِ الْكُلِّ.
قَوْلُكُمْ: لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مُنْكِرٌ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، وَلِهَذَا بَاحَثُوا ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ وَأَبَا هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ حَتَّى أَسْنَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا أَخْبَرَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا نَأْخُذُ بِمَرَاسِيلِ الْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا عَدَمَ النَّكِيرِ، فَغَايَتُهُ أَنَّهُمْ سَكَتُوا، وَالسُّكُوتُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ، سَلَّمْنَا الْمُوَافَقَةَ، غَيْرَ أَنَّ الْإِرْسَالَ الْمُحْتَجَّ بِوُقُوعِهِ، إِنَّمَا وَقَعَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ وَالتَّابِعِيَّ إِنَّمَا يَرْوِي عَنِ الصَّحَابِيِّ، وَالصَّحَابَةُ عُدُولٌ عَلَى مَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ.
(1) أَقُولُ إِنْ سَلِمَ عِلْمُ الرَّاوِي أَوْ ظَنُّهُ نِسْبَةَ الْخَبَرِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ عَدَالَةَ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ فِي نَظَرِهِ دُونَ عَدَالَتِهِ فِي نَظَرِ غَيْرِهِ، وَإِذَنْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ حَتَّى يُنْظَرَ فِي حَالِهِ
وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْمَعْقُولِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي: ” قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ” تَعْدِيلٌ لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْوِي الشَّخْصُ عَمَّنْ لَوْ سُئِلَ عَنْهُ، لَجَرَحَهُ، أَوْ تَوَقَّفَ فِيهِ، فَالرَّاوِي سَاكِتٌ عَنِ التَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ، وَالسُّكُوتُ عَنِ الْجَرْحِ لَا يَكُونُ تَعْدِيلًا، وَإِلَّا كَانَ السُّكُوتُ عَنِ التَّعْدِيلِ جَرْحًا ; وَلِهَذَا فَإِنَّ شَاهِدَ الْفَرْعِ لَوْ أَرْسَلَ شَهَادَةَ الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ تَعْدِيلًا لِشَاهِدِ الْأَصْلِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
قَوْلُكُمْ: لَوْ لَمْ يَكُنْ ظَانًّا لِعَدَالَةِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، أَوْ عَالِمًا بِهَا، لَمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَجْزِمَ بِالرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا إِمْكَانَ الرِّوَايَةِ عَنِ الْكَاذِبِ، وَالْجَزْمَ بِالرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ تَجْوِيزِ كَذِبِ الرَّاوِي، وَذَلِكَ قَادِحٌ فِي الرِّوَايَةِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِذَا تَعَذَّرَ الْجَزْمُ، فَلَيْسَ حَمْلُ قَوْلِهِ: (قَالَ) عَلَى مَعْنَى (أَظُنُّ أَنَّهُ قَالَ) أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى (أَنِّي سَمِعْتُ أَنَّهُ قَالَ) وَلَوْ حُمِلَ عَلَى (أَنِّي سَمِعْتُ أَنَّهُ قَالَ) لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَعْدِيلًا، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ بِرِوَايَتِهِ مُدَلِّسًا وَلَا مُلَبِّسًا.
سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِرْسَالَ تَعْدِيلٌ لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُطْلَقَ التَّعْدِيلِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ ذِكْرِ أَسْبَابِ الْعَدَالَةِ كَافٍ فِي التَّعْدِيلِ كَمَا سَبَقَ.
سَلَّمْنَا أَنَّ مُطْلَقَ التَّعْدِيلِ كَافٍ، لَكِنْ إِذَا عُيِّنَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ، وَلَمْ يُعْرَفْ بِفِسْقٍ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُعَيِّنْهُ، فَلَعَلَّهُ اعْتَقَدَهُ عَدْلًا فِي نَظَرِهِ، وَلَوْ عَيَّنَهُ لَعَرَفْنَا فِيهِ فِسْقًا لَمْ يَطَّلِعِ الْمُعَدِّلُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُقْبَلْ تَعْدِيلُ شَاهِدِ الْفَرْعِ لِشَاهِدِ الْأَصْلِ مَعَ عَدَمِ تَعْيِينِهِ.
سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى التَّعْدِيلِ، لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّعْدِيلِ، وَبَيَانُهُ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ.
الْأَوَّلُ أَنَّ الْجَهَالَةَ بِعَيْنِ الرَّاوِي آكَدُ مِنَ الْجَهْلِ بِصِفَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ جُهِلَتْ ذَاتُهُ فَقَدْ جُهِلَتْ صِفَتُهُ، وَلَا كَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، وَلَوْ كَانَ مَعْلُومَ الْعَيْنِ، مَجْهُولَ الصِّفَةِ، لَمْ يَكُنْ خَبَرُهُ مَقْبُولًا، فَإِذَا كَانَ مَجْهُولَ الْعَيْنِ وَالصِّفَةِ، أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ خَبَرُهُ مَقْبُولًا.
الثَّانِي: أَنَّ مِنْ شَرْطِ قَبُولِ الرِّوَايَةِ الْمَعْرِفَةَ بِعَدَالَةِ الرَّاوِي، وَالْمُرْسِلُ لَا يَعْرِفُ عَدَالَةَ الرَّاوِي لَهُ، فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُ مَقْبُولًا لِفَوَاتِ الشَّرْطِ.
الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْخَبَرَ كَالشَّهَادَةِ فِي اعْتِبَارِ الْعَدَالَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِرْسَالَ فِي الشَّهَادَةِ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِهَا فَكَذَلِكَ الْخَبَرُ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ الْعَمَلُ بِالْمَرَاسِيلِ، لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ أَسْمَاءِ الرُّوَاةِ وَالْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ مَعْنًى.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمَرَاسِيلِ لَزِمَ فِي عَصْرِنَا هَذَا أَنْ يُعْمَلَ بِقَوْلِ الْإِنْسَانِ: ” قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَا ” وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ الرُّوَاةُ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
السَّادِسُ: أَنَّ الْخَبَرَ خَبَرَانِ: تَوَاتَرٌ وَآحَادٌ، وَلَوْ قَالَ الرَّاوِي ” أَخْبَرَنِي مَنْ لَا أُحْصِيهِمْ عَدَدًا ” لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي التَّوَاتُرِ، فَكَذَلِكَ فِي الْآحَادِ.
وَالْجَوَابُ قَوْلُهُمُ: الْإِجْمَاعُ لَا يُسَاعِدُ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، قُلْنَا: الَّذِي لَا يُسَاعِدُ إِنَّمَا هُوَ الْإِجْمَاعُ الْقَاطِعُ فِي مَتْنِهِ وَسَنَدِهِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ فَظَنِّيٌّ، فَلَا يُمْتَنَعُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ كَالظَّاهِرِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
قَوْلُهُمْ: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الْإِنْكَارِ، قُلْنَا: الْأَصْلُ عَدَمُهُ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّهُمْ بَاحَثُوا ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ وَأَبَا هُرَيْرَةَ، قُلْنَا: الْمُرَاجَعَةُ فِي ذَلِكَ لَا تَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ الْإِرْسَالِ (1) بَلْ غَايَتُهُ طَلَبُ زِيَادَةِ عِلْمٍ لَمْ تَكُنْ حَاصِلَةً بِالْإِرْسَالِ، وَقَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ لَيْسَ إِنْكَارًا لِلْإِرْسَالِ مُطْلَقًا، بَلْ إِرْسَالُ الْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ لَا غَيْرَ لِظَنِّهِ أَنَّهُمَا لَمْ يَلْتَزِمَا فِي ذَلِكَ تَعْدِيلَ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ (2) .
وَلِهَذَا قَالَ فَإِنَّهُمَا لَا يُبَالِيَانِ عَمَّنْ أَخَذَا الْحَدِيثَ مِنْهُ، لَا عَلَى الْإِرْسَالِ.
قَوْلُهُمْ: السُّكُوتُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ، قُلْنَا: وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا قَطْعًا فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهَا ظَنًّا، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْإِجْمَاعِ (3) .
قَوْلُهُمْ: نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ إِرْسَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيِنَ حُجَّةٌ، قُلْنَا: إِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ، أَنْ لَوْ كَانُوا لَا يَرْوُونَ إِلَّا عَنِ الصَّحَابِيِّ الْعَدْلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَلِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ بَعْدَ الْإِرْسَالِ حَدَّثَنِي بِهِ رَجُلٌ عَلَى بَابِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِيمَا أَرْسَلَهُ حَدَّثَنِي بِهِ بَعْضُ الْحَرَسِيَّةِ.
(1) سَبَقَ فِي التَّعْلِيقِ أَنَّ النِّزَاعَ هُنَا فِي الْعَمَلِ بِأَحْكَامِ الْمُرْسَلِ لَا فِي نَفْسِ الْإِرْسَالِ ص 125
(2) لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمَا الْتَزَمَا تَعْدِيلَ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ الْمُبْهَمِ لَمْ يَكُنْ كَافِيًا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ حَتَّى يُنْظَرَ فِي حَالِهِ
(3) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا
قَوْلُهُمْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي ” قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ” تَعْدِيلٌ لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ، قُلْنَا دَلِيلُهُ مَا سَبَقَ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يَرْوِي عَمَّنْ لَوْ سُئِلَ عَنْهُ لَجَرَّحَهُ أَوْ عَدَّلَهُ، قُلْنَا: ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا إِذَا كَانَ قَدْ عَيَّنَ الرَّاوِي، وَوَكَلَ النَّظَرَ فِيهِ إِلَى الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَمْ يَجْزِمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَذَا، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ قَالَ قَالَ فُلَانٌ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَذَا، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُعَيِّنْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجْزِمُ بِقَوْلِهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ عَدَالَةَ الرَّاوِي عَلَى مَا سَبَقَ (1) .
وَأَمَّا إِرْسَالُ الشَّهَادَةِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ قَبُولِهَا عَدَمُ قَبُولِ الْإِرْسَالِ فِي الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَدِ اعْتُبِرَ فِيهَا مِنَ الِاحْتِيَاطِ مَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الرِّوَايَةِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْجَزْمَ مَعَ تَجْوِيزِ كَذِبِ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ كَذِبٌ، قُلْنَا: إِنَّمَا يَكُونُ كَذِبًا، إِنْ لَوْ ظُنَّ أَوْ عُلِمَ أَنَّهُ كَاذِبٌ، وَأَمَّا إِذَا قَالَ ذَلِكَ مَعَ ظَنِّ الصِّدْقِ، فَلَا يَكُونُ كَاذِبًا، وَإِنِ احْتَمَلَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ كَاذِبًا، كَمَا لَوْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مَعَ الْعَنْعَنَةِ.
قَوْلُهُمْ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِرْسَالَ مِنَ الرَّاوِي تَعْدِيلٌ لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ، لَكِنَّهُ تَعْدِيلٌ مُطْلَقٌ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مُوجِبَةً لِلْعَمَلِ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ، قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّعْدِيلَ الْمُطْلَقَ دُونَ تَعْيِينٍ سَبَبُهُ كَافٍ فِيمَا تَقَدَّمَ (2) .
قَوْلُهُمْ لَعَلَّهُ: اعْتَقَدَهُ عَدْلًا وَلَوْ عَيَّنَهُ لَعَرَفْنَا فِيهِ فِسْقًا لَمْ يَعْرِفْهُ الْمُعَدِّلُ، قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا، غَيْرَ أَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُهُ (3) وَلَا سِيَّمَا مَعَ تَعْدِيلِ الْعَدْلِ الْعَالِمِ بِأَحْوَالِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَعَدَمِ الظَّفَرِ بِمَا يُوجِبُ الْجَرْحَ.
وَأَمَّا اعْتِبَارُ الرِّوَايَةِ بِالشَّهَادَةِ، فَقَدْ عُرِفَ وَجْهُ الْفَارِقِ فِيهِمَا، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى، فَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ يَلْزَمُ مِنَ الْجَهْلِ بِعَيْنِ الرَّاوِي، الْجَهْلُ بِصِفَتِهِ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ الْإِرْسَالَ يَدُلُّ عَلَى تَعْدِيلِهِ مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ، وَإِنْ جُهِلَتْ عَيْنُهُ
(1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا
(2) هَذَا قَدْ يُسَلِّمُ إِنْ كَانَ الرَّاوِي مُعَيَّنًا قَدْ زَالَتْ عَنْهُ جَهَالَةُ الْعَيْنِ أَمَّا إِنْ كَانَ مُبْهَمًا فَلَا كَمَا تَقَدَّمَ
(3) لَيْسَ بِالظَّاهِرِ، بَلِ الِاحْتِمَالَانِ عَلَى السَّوَاءِ، وَأَمَّا عَدَمُ الظَّفَرِ بِالْجَرْحِ فَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ تَعْيِينِ الرَّاوِي
وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُعَارَضَةِ الثَّانِيَةِ.
وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الثَّالِثَةُ، فَقَدْ عُرِفَ جَوَابُهَا بِالْفَرْقِ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ.
وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الرَّابِعَةُ، فَجَوَابُهَا بِبَيَانِ فَائِدَةِ ذِكْرِ الرَّاوِي، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، فَيُعَيِّنُهُ لِيَكِلَ النَّظَرَ فِي أَمْرِهِ إِلَى الْمُجْتَهِدِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أُرْسِلَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا عُيِّنَ الرَّاوِي، فَالظَّنُّ الْحَاصِلُ لِلْمُجْتَهِدِ بِفَحْصِهِ بِنَفْسِهِ عَنْ حَالِهِ يَكُونُ أَقْوَى مِنَ الظَّنِّ الْحَاصِلِ لَهُ بِفَحْصِ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الْخَامِسَةُ فَمُنْدَفِعَةٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ مَهْمَا كَانَ الْمُرْسِلُ لِلْخَبَرِ فِي زَمَانِنَا عَدْلًا، وَلَمْ يُكَذِّبْهُ الْحُفَّاظُ، فَهُوَ حُجَّةٌ.
وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ السَّادِسَةُ، فَإِنَّمَا لَمْ يَصِرِ الْخَبَرُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ مُتَوَاتِرًا ; لِأَنَّ الْمُتَوَاتِرَ يُشْتَرَطُ فِيهِ اسْتِوَاءُ طَرَفَيْهِ وَوَسَطِهِ، وَالْوَاحِدُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَا يَحْصُلُ بِخَبَرِهِ التَّوَاتُرُ.
وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْمُرْسَلَ مَقْبُولٌ مِنَ الْعَدْلِ، فَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ كَالشَّافِعِيِّ، فَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ إِنَّهُ يَكُونُ مَقْبُولًا إِذَا أَسْنَدَهُ غَيْرُ الْمُرْسِلِ أَوْ أَسْنَدَهُ الْمُرْسِلُ مَرَّةً ; لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْإِسْنَادِ، لَا عَلَى الْإِرْسَالِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: إِنَّهُ يَكُونُ مَقْبُولًا إِذَا أَرْسَلَهُ اثْنَانِ، وَكَانَتْ مَشَايِخُهُمَا مُخْتَلِفَةً ; لِأَنَّ ضَمَّ الْبَاطِلِ إِلَى الْبَاطِلِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَبُولِ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ ; لِأَنَّ الظَّنَّ الْحَاصِلَ بِصِدْقِ الرَّاوِي مِنَ الْإِرْسَالِ مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ أَقْوَى مِنْهُ عِنْدَ عَدَمِهَا.
وَعَلَى هَذَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِأَضْعَفِ الظَّنَّيْنِ عَدَمُ الِاحْتِجَاجِ بِأَقْوَاهُمَا، وَإِذَا عُرِفَ الْخَبَرُ الْمَقْبُولُ وَغَيْرُ الْمَقْبُولِ، فَإِذَا تَعَارَضَ خَبَرَانِ مَقْبُولَانِ، فَالْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّرْجِيحِ. وَسَيَأْتِي فِي قَاعِدَةِ التَّرْجِيحَاتِ بِأَقْصَى الْمُمْكِنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.