[النَّوْعُ الثَّانِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ فِي الْمَتْنِ]

كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي

أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)


[النَّوْعُ الثَّانِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ فِي الْمَتْنِ]

[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ]

[الصِّنْفُ الْأَوَّلُ فِي الْأَمْرِ]

[الْبَحْثُ الْأَوَّلُ فِيمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَمْرِ حَقِيقَةً]

النَّوْعُ الثَّانِي
فِيمَا يَتَعَلَّقُ فِي الْمَتْنِ وَفِيهِ بَابَانِ، أَوَّلُهُمَا فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَثَانِيهُمَا فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دُونَ مَا عَدَاهُمَا مِنَ الْأَدِلَّةِ.
الْبَابُ الْأَوَّلُ
فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ، إِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِمَنْظُومِهِ، أَوْ لَا بِمَنْظُومِهِ، فَلْنَفْرِضْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا قِسْمًا
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ
فِي دَلَالَاتِ الْمَنْظُومِ، وَهِيَ تِسْعَةُ أَصْنَافٍ
الصِّنْفُ الْأَوَّلُ – فِي الْأَمْرِ وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَبْحَاثٍ
أَوَّلُهُمَا: فِيمَا يَدُلُّ اسْمُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً.
وَثَانِيهَا: فِي حَدِّ الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ.
وَثَالِثُهَا: فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وَرَابِعُهَا: فِي مُقْتَضَاهُ.

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِيمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَمْرِ حَقِيقَةً.

فَنَقُولُ: اتَّفَقَ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْأَمْرِ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، وَهُوَ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، وَلِذَلِكَ قَسَّمَتِ الْعَرَبُ الْكَلَامَ إِلَى أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَخَبَرٍ وَاسْتِخْبَارٍ، وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ وَنِدَاءٍ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْكَلَامَ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ، أَوِ الْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ بِالْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ (1) وَالْكَلَامُ الْقَدِيمُ النَّفْسَانِيُّ عِنْدَنَا (2) وَإِنْ كَانَ صِفَةً وَاحِدَةً لَا تَعَدُّدَ فِيهِ فِي ذَاتِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُسَمَّى أَمْرًا


(1) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَجْمُوعِ، فَكُلٌّ مِنَ الْعِبَارَةِ وَمَعْنَاهَا جُزْءٌ مِنْ مَدْلُولِ الْكَلَامِ، وَقَدْ يُرَادُ مِنْهُ أَحَدُهُمَا بِقَرِينَةٍ
(2) عِنْدَنَا – أَيِ الْأَشْعَرِيَّةِ

وَنَهْيًا وَخَبَرًا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، بِسَبَبِ اخْتِلَافِ تَعَلُّقَاتِهِ، وَمُتَعَلِّقَاتِهِ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ (1) فِي (أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ) فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ قِسْمًا مِنْ أَقْسَامِهِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْأَمْرِ عَلَى الْفِعْلِ، هَلْ هُوَ حَقِيقَةً أَوْ لَا؟ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ، وَاخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الشَّيْءِ وَالصِّفَةِ، وَبَيْنَ جُمْلَةِ الشَّأْنِ وَالطَّرَائِقِ، وَوَافَقَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَةً فِي نَفْسِ الْفِعْلِ، مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ، بَلْ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَيْءٌ.
وَهَا نَحْنُ نَذْكُرُ حُجَجَ كُلِّ فَرِيقٍ وَنُنَبِّهُ عَلَى مَا فِيهَا، وَنَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ، أَمَّا حُجَّةُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ (هَذَا أَمْرٌ) لَمْ يَدْرِ السَّامِعُ مُرَادَهُ مِنْ قَوْلِهِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِكَوْنِهِ مُصَادَرًا (2) بِدَعْوَى التَّرَدُّدِ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْأَمْرِ، وَلَا يَخْفَى ظُهُورُ الْمَنْعِ مِنْ مُدَّعِي الْحَقِيقَةِ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، وَأَنَّهُ مَهْمَا أَطْلَقَ اسْمَ الْأَمْرِ عِنْدَهُ كَانَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى فَهْمِهِ الْقَوْلَ الْمَخْصُوصَ، وَأَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ وَلَا يَخْفَى امْتِنَاعُ تَقْرِيرِ التَّرَدُّدِ مَعَ هَذَا الْمَنْعِ.
وَأَمَّا حُجَجُ الْقَائِلِينَ بِكَوْنِهِ مَجَازًا فِي الْفِعْلِ فَكَثِيرَةٌ.
الْأُولَى مِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْفِعْلِ مَعَ كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي الْقَوْلِ لَزِمَ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، لِكَوْنِهِ مُخِلًّا بِالتَّفَاهُمِ لِاحْتِيَاجِهِ فِي فَهْمِ الْمَدْلُولِ الْمُعَيَّنِ مِنْهُ إِلَى قَرِينَةٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ خَفَائِهَا، لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ.
الثَّانِيَةُ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْفِعْلِ لَاطَّرَدَ فِي كُلِّ فِعْلٍ، إِذْ هُوَ لَازِمُ الْحَقِيقَةِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعَالِمِ عَلَى مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ حَقِيقَةً، اطَّرَدَ فِي كُلِّ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} مَجَازًا عَنْ أَهْلِهَا، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُجَاوَرَةِ، لَمْ يَصِحَّ التَّجَوُّزُ بِلَفْظِ السُّؤَالِ لِلْبِسَاطِ وَالْكُوزِ عَنْ صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُلَازَمَةُ بَيْنَهُمَا أَشَدَّ، وَهُوَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، إِذْ لَا يُقَالُ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَمْرٌ.
الثَّالِثَةُ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةٌ فِي الْفِعْلِ، لَاشْتُقَّ لِمَنْ قَامَ بِهِ مِنْهُ اسْمُ الْأَمْرِ، كَمَا فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، إِذْ هُوَ الْأَصْلُ إِلَّا أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ


(1) سَبَقَ أَيْضًا بَيَانُ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ تَعْلِيقًا ص 153 ج 1
(2) الْمُصَادَرَةُ – هِيَ أَخْذُ الدَّعْوَى فِي الدَّلِيلِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الدَّوْرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ

كَمَا اشْتَقُّوا اسْمَ الْقَارُورَةِ لِلزُّجَاجَةِ الْمَخْصُوصَةِ، مِنْ قَرَارِ الْمَائِعِ فِيهَا، وَمَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ فِي الْجَرَّةِ وَالْكُوزِ وَلَمْ يَرِدْ مِثْلُهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّ جَمْعَ الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ بِأَوَامِرَ، وَهُوَ لَازِمٌ لَهُ لِنَفْسِ الْأَمْرِ لَا لِلْمُسَمَّى، وَهُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي الْفِعْلِ، بَلْ إِنْ جُمِعَ فَإِنَّمَا يُجْمَعُ بِأُمُورٍ.
الْخَامِسَةُ: أَنَّ الْأَمْرَ الْحَقِيقِيَّ لَهُ مُتَعَلِّقٌ، وَهُوَ الْمَأْمُورُ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ سُمِّيَ أَمْرًا، فَلَا يُقَالُ لَهُ مَأْمُورٌ، وَيَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ انْتِفَاءُ الْمَلْزُومِ.
السَّادِسَةُ: أَنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ، وَصْفَهُ بِكَوْنِهِ مُطَاعًا أَوْ مُخَالِفًا، وَلَا كَذَلِكَ الْفِعْلُ، وَفِي هَذِهِ الْحُجَجِ نَظَرٌ.
أَمَّا الْأُولَى: فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي الْفِعْلِ، أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا (1) إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى مُشْتَرِكٍ بَيْنَ الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، وَالْفِعْلِ، فَيَكُونُ مُتَوَاطِئًا (2) .
فَإِنْ قِيلَ: الْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ الْمُسَمَّى الْمُشْتَرَكِ، فَلَا تَوَاطُؤَ، قِيلَ: لَا خَفَاءَ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي صِفَاتٍ، وَافْتِرَاقِهِمَا فِي صِفَاتٍ، فَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الصِّفَاتِ الْمُشْتَرِكَةِ هُوَ الْمُسَمَّى، كَيْفَ وَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّفْظُ مُشْتَرِكًا وَلَا مَجَازًا، لِمَا فِيهِ مِنَ الِافْتِقَارِ إِلَى الْقَرِينَةِ الْمُخِلَّةِ بِالتَّفَاهُمِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ (3) أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا وَقَعَ بِهِ الِاشْتِرَاكُ (4) لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَوْجُودِ وَالصِّفَةِ وَالشَّبِيهِ (5) وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَيُّ أَمْرٍ قُدِّرَ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ، فَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي النَّهْيِ وَسَائِرِ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، وَلَا يُسَمَّى أَمْرًا.
وَالْقَوْلُ (6) بِأَنَّهُ مُتَوَاطِئٌ مُمْتَنِعٌ، كَيْفَ وَإِنَّ الْقَائِلَ قَائِلَانِ، قَائِلٌ إِنَّهُ مُشْتَرَكٌ (7) وَقَائِلٌ إِنَّهُ مَجَازٌ فِي الْفِعْلِ، فَإِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ (8) يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.


(1) أَيْ مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا
(2) أَيْ مُشْتَرَكًا مَعْنَوِيًّا
(3) أَيِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَالتَّجَوُّزِ
(4) أَيِ الْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ
(5) الشَّبِيهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ – كَأَنَّ فِيهِ تَحْرِيفًا وَلَعَلَّ الصَّوَابَ وَالشَّيْءِ أَوِ الشَّأْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
(6) لَعَلَّهُ فَالْقَوْلُ بِالْفَاءِ لِيَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى مَا قَبْلَهُ وَنَتِيجَةً لَهُ
(7) أَيْ لَفْظِيٌّ
(8) هُوَ الْقَوْلُ بِالِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ

قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، وَذَلِكَ أَنَّ مُسَمَّى اسْمِ الْأَمْرِ إِنَّمَا هُوَ الشَّأْنُ وَالصِّفَةُ، وَكُلُّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَانَ نَهْيًا أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى أَمْرًا حَقِيقَةً.
وَعَلَى هَذَا فَقَدِ انْدَفَعَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ خَرْقِ الْإِجْمَاعِ (1) فَإِنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَعْلِ الشَّأْنِ وَالصِّفَةِ، مَدْلُولًا لِاسْمِ الْأَمْرِ، فَمِنْ جُمْلَةِ مَا قِيلَ وَإِنْ سَلَّمْنَا (2) أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الِاشْتِرَاكِ، وَلَكِنْ لِمَ قِيلَ بِامْتِنَاعِهِ.
وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَجَازٌ مُخِلٌّ بِالتَّفَاهُمِ (3) لِافْتِقَارِهِ إِلَى الْقَرِينَةِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ مَحْمُولًا عَلَى جَمِيعِ مَحَامِلِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَقْدِيرُهُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ (4) أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِلَّا أَنَّ مَحْذُورَ الِاشْتِرَاكِ أَعْظَمُ مِنْ مَحْذُورِ التَّجَوُّزِ، فَكَانَ الْمَجَازُ أَوْلَى، وَبَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ، أَمَّا الْإِجْمَالُ فَهُوَ أَنَّ الْمَجَازَ أَغْلَبُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مِنَ الِاشْتِرَاكِ (5) وَلَوْلَا أَنَّهُ أَوْفَى بِتَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْوَضْعِ، لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَحْذُورَ اللَّازِمَ مِنَ الِاشْتِرَاكِ بِافْتِقَارِهِ إِلَى الْقَرِينَةِ لَازِمٌ لَهُ أَبَدًا، بِخِلَافِ الْمَجَازِ: فَإِنَّ الْمَحْذُورَ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ جِهَةِ الْمَجَازِ، وَهُوَ احْتِمَالٌ نَادِرٌ، إِذِ الْغَالِبُ إِنَّمَا هُوَ إِرَادَةُ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمَحْذُورَ لَازِمٌ فِي الْمُشْتَرَكِ فِي كُلِّ مَحَمَلٍ مِنْ مَحَامِلِهِ، لِافْتِقَارِهِ إِلَى الْقَرِينَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، بِخِلَافِ الْمَجَازِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَرِينَةِ بِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ جِهَةِ الْمَجَازِ، لَا بِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ، قِيلَ هَذَا مُعَارَضٌ (6) مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ،


(1) وَهُوَ الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي بِأَنَّ كَوْنَهُ مَعْنَوِيًّا خَارِقٌ لِلْإِجْمَاعِ
(2) رُجُوعٌ إِلَى الِاعْتِرَاضِ عَلَى الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ مِنْ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ فِي الْفِعْلِ
(3) الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ
(4) أَيِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَالتَّجَوُّزِ
(5) أَيِ اللَّفْظِيِّ
(6) سَيَجِيءُ بَحْثُ الْمُعَارَضَةِ فِي الِاعْتِرَاضِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنَ الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُشْتَرَكَ لِكَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُسَمَّيَاتِهِ مِمَّا يَطَّرِدُ، بِخِلَافِ الْمَجَازِ كَمَا سَبَقَ، وَمَا يَطَّرِدُ أَوْلَى لِقِلَّةِ اضْطِرَابِهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ، لِكَوْنِهِ حَقِيقَةً بِخِلَافِ الْمَجَازِ، فَكَانَ أَوْسَعَ فِي اللُّغَةِ وَأَكْثَرَ فَائِدَةً.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لِكَوْنِهِ حَقِيقِيًّا، مِمَّا يَصِحُّ التَّجَوُّزُ بِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ الْحَقِيقِيِّ، بِخِلَافِ الْمَجَازِ، فَكَانَ أَوْلَى لِكَثْرَةِ فَائِدَتِهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ وَإِنِ افْتَقَرَ إِلَى قَرِينَةٍ، لَكِنْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ أَدْنَى مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، بِخِلَافِ الْمَجَازِ، لِافْتِقَارِهِ إِلَى مُغَلِّبَةٍ عَلَى الظَّنِّ، وَأَنْ تَكُونَ رَاجِحَةً عَلَى جِهَةِ ظُهُورِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ، فَكَانَ تَمَكُّنُ الْخَلَلِ مَعَهُ لِذَلِكَ أَكْثَرَ.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَجَازَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَلَاقَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ، تَكُونُ مُصَحِّحَةً لِلتَّجَوُّزِ بِاللَّفْظِ، عَلَى مَا سَلَفَ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ.
السَّادِسُ: أَنَّ الْمَجَازَ لَا يَتِمُّ فَهْمُهُ دُونَ فَهْمِ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ ضَرُورَةَ كَوْنِهِ مُسْتَعَارًا مِنْهُ، وَفَهْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْلُولَاتِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى فَهْمِ غَيْرِهِ، فَكَانَ أَوْلَى.
السَّابِعُ: أَنَّ الْمَجَازَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَصَرُّفِ مَنْ قَبْلَنَا فِي تَحْقِيقِ الْعَلَاقَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي التَّجَوُّزِ، وَرُبَّمَا وَقَعَ الْخَطَأُ فِيهِ: بِخِلَافِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ.
الثَّامِنُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ بِاللَّفْظِ فِي جِهَةِ الْمَجَازِ مُخَالَفَةُ الظُّهُورِ فِي جِهَةِ الْحَقِيقَةِ، بِخِلَافِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ فِي أَحَدِ مَدْلُولَيْهِ مُخَالَفَةُ ظَاهِرٍ أَصْلًا.
التَّاسِعُ: أَنَّ الْمَجَازَ تَابِعٌ لِلْحَقِيقَةِ وَلَا عَكْسَ، فَكَانَ الْمُشْتَرَكُ أَوْلَى.
الْعَاشِرُ: أَنَّ السَّامِعَ لِلْمَجَازِ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِالْقَرِينَةِ الصَّارِفَةِ إِلَى الْمَجَازِ، إِذَا كَانَ هُوَ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ فَقَدْ يُبَادِرُ إِلَى الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ تَرْكُ الْمُرَادِ وَفِعْلُ مَا لَيْسَ بِمُرَادٍ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ، فَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ ظُهُورِ الْقَرِينَةِ مُطْلَقًا، لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَلَا يَلْزَمُ سِوَى عَدَمِ الْمَقْصُودِ.
فَإِنْ قِيلَ إِلَّا أَنَّ الْمَجَازَ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَوَائِدُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ أَبْلَغَ وَأَوْجَزَ وَأَوْفَقَ فِي بَدِيعِ الْكَلَامِ وَنَظْمِهِ وَنَثْرِهِ لِلسَّجْعِ وَالْمُطَابَقَةِ وَالْمُجَانَسَةِ وَاتِّحَادِ الرَّوِيِّ فِي الشِّعْرِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

قُلْنَا: وَمِثْلُ هَذَا أَيْضًا مُنْقَدِحٌ فِي اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ مَعَ كَوْنِهِ حَقِيقَةً، فَكَانَ اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْلَى فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْمُسَاوَاةِ، وَهِيَ كَافِيَةٌ فِي مَقَامِ الْمُعَارَضَةِ (1) .
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ، فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ إِطْلَاقِ الْأَمْرِ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَإِنْ سَلِمَ ذَلِكَ فَعَدَمُ اطِّرَادِهِ فِي كُلِّ فِعْلٍ إِنْ كَانَ مِمَّا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ فَعَدَمُ اطِّرَادِهِ فِي كُلِّ قَوْلٍ مِمَّا يَمْنَعُ كَوْنُهُ حَقِيقَةً فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، وَهُوَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِي كُلِّ قَوْلٍ عَلَى مَا لَا يَخْفَى (2) ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقَوْلِ فَكَذَلِكَ فِي الْفِعْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يَجِبُ اطِّرَادُ الِاسْمِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ الِاسْمُ حَقِيقَةً فِيهِ، لَا فِي غَيْرِهِ، وَالْأَمْرُ إِنَّمَا كَانَ حَقِيقَةً فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، لَا فِي مُطْلَقِ قَوْلٍ، وَهُوَ مُطَّرِدٌ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ، فَمِثْلُهُ (3) لَازِمٌ فِي الْأَفْعَالِ، إِذْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ، لَا فِي كُلِّ فِعْلٍ.
أَمَّا الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَصْلُ فِي الْحَقَائِقِ الِاشْتِقَاقَ لَكَانَ الْمَنْعُ مِنِ اشْتِقَاقِ اسْمِ الْقَارُورَةِ لِلْجَرَّةِ وَالْكُوزِ مِنْ قَرَارِ الْمَائِعِ فِيهَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: وَلَوْ لَمْ يَكُنِ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ لَكَانَ الِاشْتِقَاقُ فِي صُوَرِ الِاشْتِقَاقِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَالْمَحْذُورُ اللَّازِمُ مِنْهُ أَكْثَرَ ; لِأَنَّ صُوَرَ الِاشْتِقَاقِ أَغْلَبُ وَأَكْثَرُ مِنْ صُوَرِ عَدَمِ الِاشْتِقَاقِ.
قِيلَ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْأَصَالَةِ فِي الِاشْتِقَاقِ أَنْ يَكُونَ الِاشْتِقَاقُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الِاشْتِقَاقُ وَعَدَمُهُ لَا عَلَى وَفْقِ أَصْلٍ فَيَقْتَضِيهِ، بَلْ هُمَا تَابِعَانِ لِلنَّقْلِ وَالْوَضْعِ.
كَيْفَ وَإِنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الِاشْتِقَاقُ مِنْ تَوَابِعِ الْحَقِيقَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَوَابِعِ بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ مِنَ الِاشْتِقَاقِ فِي بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ الِاشْتِقَاقُ فِي غَيْرِهِ؛ لِعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ فِي ذَلِكَ الْمُسَمَّى.


(1) أَيْ وَعَلَى الْمُسْتَدِلِّ التَّرْجِيحُ
(2) جُمْلَةُ وَهُوَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِي كُلِّ قَوْلٍ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَمْنَعُ، أَوِ اعْتِرَاضِيَّةٌ لِتَعْلِيلِ الْمَنْعِ
(3) جَوَابُ قَوْلِهِ فَإِنْ قِيلَ

وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْحُجَّةِ الرَّابِعَةِ، وَالْخَامِسَةِ، وَالسَّادِسَةِ.
كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ فِي الْحُجَّةِ الرَّابِعَةِ إِنَّ (أَوَامِرَ) لَيْسَتْ جَمْعُ (أَمْرٍ) بَلْ جَمْعُ (أَمْرَهُ) وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِكَوْنِهِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ وَالْفِعْلِ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِثَلَاثِ حُجَجٍ.
الْأُولَى: أَنَّ الْمُسَمَّى فِي نَفْسِهِ مُخْتَلِفٌ، وَكَمَا قَدْ أُطْلِقَ اسْمُ الْأَمْرِ عَلَى الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، فَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى الْفِعْلِ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَيَدُلُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ قَوْلُ الْعَرَبِ: أَمْرُ فُلَانٍ مُسْتَقِيمٌ، أَيْ عَمَلُهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} أَيْ فِعْلُنَا {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} .
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ اسْمَ الْأَمْرِ فِي الْفِعْلِ قَدْ جُمِعَ بِأُمُورٍ وَالْجَمْعُ عَلَامَةُ الْحَقِيقَةِ.
وَالْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْمُ الْأَمْرِ فِي الْفِعْلِ مَجَازًا لَمْ يَخْلُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجَازًا بِالزِّيَادَةِ أَوْ بِالنُّقْصَانِ، أَوْ لِمُشَابَهَتِهِ لِمَحَلِّ الْحَقِيقَةِ، أَوْ لِمُجَاوِرٍ لَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ أَوْ سَيَؤُولُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْفِعْلِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَجَازًا كَانَ حَقِيقَةً، وَهَذِهِ الْحُجَجُ ضَعِيفَةٌ أَيْضًا.
أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى: فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ إِطْلَاقِ اسْمِ الْأَمْرِ عَلَى الْفِعْلِ، وَقَوْلُهُمْ (أَمْرُ فُلَانٍ مُسْتَقِيمٌ) لَيْسَ مُسَمَّاهُ الْفِعْلَ، بَلْ شَأْنُهُ، وَصِفَتُهُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} ، وَمِنْ قَوْلِهِ: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} .
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجَمْعَ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ فِي جَمْعِ مَنْ سُمِّيَ (حِمَارًا) لِبَلَادَتِهِ (حُمُرٌ) وَهُوَ مَجَازٌ، وَإِنْ سَلَّمْنَا بِأَنَّ الْجَمْعَ يَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنْ (أُمُورَ) جَمْعُ (أَمْرٍ) بَلِ الْأَمْرُ وَالْأُمُورُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقَعُ مَوْقِعَ الْآخَرِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا جَمْعًا لِلْآخَرِ.
وَلِهَذَا يُقَالُ (أَمْرُ فُلَانٍ مُسْتَقِيمٌ) فَيُفْهَمُ مِنْهُ مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِمْ (أُمُورُ فُلَانٍ مُسْتَقِيمَةٌ) .
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْأَمْرِ لَيْسَ مَجَازًا فِي الْفِعْلِ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِيهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ مَعْنَى الشَّأْنِ وَالصِّفَةِ كَمَا سَبَقَ.

وَعَلَى هَذَا، فَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ كَوْنُ اسْمِ الْأَمْرِ مُتَوَاطِئًا فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ وَالْفِعْلِ، لَا أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ (1) وَلَا مَجَازٌ فِي أَحَدِهِمَا.

[الْبَحْثُ الثَّانِي فِي حَدِّ الْأَمْرِ]

وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِهِمْ لِكَلَامِ النَّفْسِ، فَذَهَبَ الْبَلْخِيُّ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ (افْعَلْ) أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ.
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ (يَقُومُ مَقَامَهُ) أَيْ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَدْلُولِهِ، وَقَصَدَ بِذَلِكَ إِدْرَاجَ صِيغَةِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِيِّ فِي الْحَدِّ، وَهُوَ فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ قَدْ يُوجَدُ فِيمَا لَيْسَ بِأَمْرٍ بِالِاتِّفَاقِ (2) كَالتَّهْدِيدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} ، وَالْإِبَاحَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} ، وَالْإِرْشَادِ فِي قَوْلِهِ: {فَاسْتَشْهِدُوا} ، وَالِامْتِنَانِ كَقَوْلِهِ: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} ، وَالْإِكْرَامِ كَقَوْلِهِ: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} ، وَالتَّسْخِيرِ، وَالتَّعْجِيزِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَحَامِلِ الَّتِي يَأْتِي ذِكْرُهَا.
الثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ، أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ (افْعَلْ) الْوَارِدَةُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَنَا، أَمْرًا حَقِيقَةً لِتَحَقُّقِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ شُرُوطِ الْأَمْرِ فِيهَا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْآمِرَ لَنَا بِهَا، وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ رَسُولًا، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلرَّسُولِ غَيْرِ الْمُبَلِّغِ لِكَلَامِ الْمُرْسِلِ، لَا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْآمِرَ وَالنَّاهِيَ، كَالسَّيِّدِ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ صِيغَتُهُ مَخْلُوقَةً لَهُ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمْ، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا (3) .
الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ يَرِدُ مِثْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ مِنَ الْأَعْلَى نَحْوَ الْأَدْنَى وَلَا يَكُونُ أَمْرًا، بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّضَرُّعِ وَالْخُضُوعِ، وَقَدْ يَرِدُ مِنَ الْأَدْنَى نَحْوَ الْأَعْلَى إِذَا كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْلَاءِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ، وَلِذَلِكَ يُوصَفُ قَائِلُهَا بِالْجَهْلِ وَالْحُمْقِ بِأَمْرِهِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ، الْأَمْرُ صِيغَةُ (افْعَلْ) عَلَى تَجَرُّدِهَا مِنَ الْقَرَائِنِ الصَّارِفَةِ لَهَا عَنْ جِهَةِ الْأَمْرِ إِلَى التَّهْدِيدِ، وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْمَحَامِلِ.


(1) أَيْ لَفْظِيٌّ
(2) فَلَيْسَ التَّعْرِيفُ مَانِعًا لِدُخُولِ غَيْرِ الْمُعَرَّفِ فِيهِ
(3) الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، هَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ أَوْ لِلْعَبْدِ

وَهُوَ أَيْضًا فَاسِدٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَخَذَ الْأَمْرَ فِي تَعْرِيفِ الْأَمْرِ، وَتَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ مُحَالٌ، وَإِنِ اقْتَصَرُوا فِي التَّحْدِيدِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ صِيغَةُ (افْعَلْ) الْمُجَرَّدَةُ عَنِ الْقَرَائِنِ لَا غَيْرَ، وَزَعَمُوا أَنَّ صِيغَةَ (افْعَلْ) فِيمَا لَيْسَ بِأَمْرٍ لَا تَكُونُ مُجَرَّدَةً عَنِ الْقَرَائِنِ، فَلَيْسَ مَا ذَكَرُوهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ، التَّهْدِيدُ عِبَارَةٌ عَنْ صِيغَةِ (افْعَلْ) الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْقَرَائِنِ، إِلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ، الْأَمْرُ صِيغَةُ (افْعَلْ) بِشَرْطِ إِرَادَاتٍ ثَلَاثٍ، إِرَادَةِ إِحْدَاثِ الصِّيغَةِ، وَإِرَادَةِ الدَّلَالَةِ بِهَا عَلَى الْأَمْرِ، وَإِرَادَةِ الِامْتِثَالِ، فَإِرَادَةُ إِحْدَاثِ الصِّيغَةِ احْتِرَازٌ عَنِ النَّائِمِ إِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الصِّيغَةُ مِنْهُ، وَإِرَادَةُ الدَّلَالَةِ بِهَا عَلَى الْأَمْرِ احْتِرَازٌ عَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِهَا التَّهْدِيدُ أَوْ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَحَامِلِ، وَإِرَادَةُ الِامْتِثَالِ احْتِرَازٌ عَنِ الرَّسُولِ الْحَاكِي الْمُبَلِّغِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ أَرَادَ إِحْدَاثَ الصِّيغَةِ وَالدَّلَالَةَ بِهَا عَلَى الْأَمْرِ، فَقَدْ لَا يُرِيدُ بِهَا الِامْتِثَالَ.
وَهُوَ أَيْضًا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَخَذَ الْأَمْرَ فِي حَدِّ الْأَمْرِ، وَتَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ مُحَالٌ مُمْتَنِعٌ.
الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الصِّيغَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الصِّيغَةَ أَوْ غَيْرَ الصِّيغَةِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ نَفْسَ الصِّيغَةِ، كَانَ الْكَلَامُ مُتَهَافِتًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الصِّيغَةَ دَالَّةٌ عَلَى الصِّيغَةِ، وَالدَّالُّ غَيْرُ الْمَدْلُولِ.
وَإِنْ كَانَ هُوَ غَيْرَ الصِّيغَةِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ هُوَ الصِّيغَةَ، وَقَدْ قَالَ بِأَنَّ الْأَمْرَ هُوَ الصِّيغَةُ (افْعَلْ) بِشَرْطِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَمْرِ، فَإِنَّ الشَّرْطَ غَيْرُ الْمَشْرُوطِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ غَيْرَ الصِّيغَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهِ وَالْكَشْفِ عَنْهُ، إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
وَلَمَّا انْحَسَمَتْ عَلَيْهِمْ طُرُقُ التَّعْرِيفِ قَالَ قَائِلُونَ مِنْهُمْ: الْأَمْرُ هُوَ إِرَادَةُ الْفِعْلِ، وَقَدِ احْتَجَّ الْأَصْحَابُ عَلَى إِبْطَالِهِ بِأَنَّ السَّيِّدَ الْمُعَاتَبَ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ عَلَى ضَرْبِ عَبْدِهِ، إِذَا اعْتَذَرَ عَنْ ذَلِكَ قَصَدَ إِظْهَارَ أَمَرِهِ، وَأَمَرُهُ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ قَصْدًا لِإِظْهَارِ مُخَالَفَتِهِ لِبَسْطِ عُذْرِهِ، وَالْخَلَاصُ مِنْ عِقَابِ السُّلْطَانِ لَهُ، فَإِنَّهُ يُعَدُّ آمِرًا، وَالْعَبْدُ مَأْمُورًا، وَمُطِيعًا بِتَقْدِيرِ الِامْتِثَالِ، وَعَاصِيًا بِتَقْدِيرِ الْمُخَالِفَةِ، مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ مِنْهُ الِامْتِثَالَ لِمَا فِيهِ مِنْ ظُهُورِ كَذِبِهِ، وَتَحْقِيقِ عِقَابِ السُّلْطَانِ لَهُ. وَالْعَاقِلُ لَا يَقْصِدُ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَازِمٌ عَلَى أَصْحَابِنَا

إِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي تَفْسِيرِهِمُ الْأَمْرَ، بِطَلَبِ الْفِعْلِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ السَّيِّدَ أَيْضًا آمِرٌ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ لِعَبْدِهِ، مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ طَلَبُ الْفِعْلِ مِنْ عَبْدِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ عِقَابِهِ وَكَذِبِهِ، وَالْعَاقِلُ لَا يَطْلُبُ مَا فِيهِ مُضِرَّتُهُ وَإِظْهَارُ كَذِبِهِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَمَا هُوَ جَوَابُ أَصْحَابِنَا فِي تَفْسِيرِ الْأَمْرِ بِالطَّلَبِ يَكُونُ جَوَابًا لِلْخَصْمِ فِي تَفْسِيرِهِ بِالْإِرَادَةِ.
وَإِنْ زَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ هُوَ الطَّلَبَ، بَلِ الْإِخْبَارُ بِاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرَ لِعَبْدِهِ مِمَّا يَصِحُّ تَصْدِيقُهُ وَتَكْذِيبُهُ فِي أَمْرِهِ لِعَبْدِهِ ضَرُورَةَ كَوْنِ الْأَمْرِ خَبَرًا وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
كَيْفَ وَإِنَّهُ عَلَى خِلَافِ تَقْسِيمِ أَهْلِ اللُّغَةِ الْكَلَامَ، إِلَى أَمْرٍ وَخَبَرٍ.
وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ، أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ غَيْرِ مُخَالِفَةٍ مِنَ الْخُصُومِ، عَلَى أَنَّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى كُفْرِهِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِيمَانِ، وَلَيْسَ الْإِيمَانُ مِنْهُ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى (1) لِأَنَّهُ، لَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى سِوَى تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِهِ، وَلَا مَعْنَى لِتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِالْفِعْلِ سِوَى تَخْصِيصِهَا لَهُ بِحَالَةِ حُدُوثِهِ، فَلَا يَعْقِلُ تَعَلُّقُهَا بِهِ دُونَ تَخْصِيصِهَا لَهُ بِحَالَةِ حُدُوثِهِ، وَمَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ تَكُنِ الْإِرَادَةُ مُخَصَّصَةً لَهُ بِحَالَةِ حُدُوثِهِ، فَلَا تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِهِ، وَلِيَقْنَعَ بِهَذَا هَاهُنَا عَمَّا اسْتَقْصَيْنَاهُ مِنَ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَأَمَّا أَصْحَابُنَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ، الْأَمْرُ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَبَرِ عَلَى الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ تَارَةً، وَالْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ تَارَةً، وَهُوَ فَاسِدٌ لِمَا سَبَقَ امْتِنَاعٌ مِنْ تَصْدِيقِ الْآمِرِ وَتَكْذِيبِهِ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ لُزُومُ الثَّوَابِ عَلَى فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ، وَالْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ، مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ حَذَرًا مِنَ الْخَلَفِ فِي خَبَرِ الصَّادِقِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ.
أَمَّا الثَّوَابُ فَلِجَوَازِ إِحْبَاطِ الْعَمَلِ بِالرِّدَّةِ، وَأَمَّا الْعِقَابُ فَلِجَوَازِ الْعَفْوِ وَالشَّفَاعَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْتَرَزَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِأَنْ يُقَالَ: هُوَ الْإِخْبَارُ بِاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَبْقَى عَلَيْهِ الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ دَافِعٍ.


(1) أَيْ لَيْسَ إِيمَانُ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا مُرَادًا لِلَّهِ إِرَادَةً كَوْنِيَّةً، وَإِنْ كَانَ مُرَادًا لَهُ إِرَادَةً شَرْعِيَّةً

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ، وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمُ: الْأَمْرُ هُوَ الْقَوْلُ الْمُقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَقَوْلُهُمُ (الْقَوْلُ) كَالْجِنْسِ لِلْأَمْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، وَقَوْلُهُمْ: (الْمُقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ) لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، وَلِفَصْلِ الْأَمْرِ عَنِ الدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ فِي الْحَدِّ (بِنَفْسِهِ) احْتِرَازًا عَنِ الصِّيغَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَقْتَضِي الطَّاعَةَ بِنَفْسِهَا، بَلْ بِالتَّوْقِيفِ وَالِاصْطِلَاحِ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيفِ الْأَمْرِ بِالْمَأْمُورِ وَالْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُمَا مُشْتَقَّانِ مِنَ الْأَمْرِ، وَالْمُشْتَقُّ مِنَ الشَّيْءِ أَخْفَى مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَتَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِمَا لَا يُعْرَفُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مُحَالٌ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَمْرُ هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ عَلَى وَجْهٍ يُعَدُّ فَاعِلُهُ مُطِيعًا، وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيفِ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْفِعْلِ، وَالطَّاعَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفِعْلِ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِمُوَافَقَةِ الْأَمْرِ: وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ، كَيْفَ وَإِنَّ فِعْلَ الرَّبِّ تَعَالَى لِمَا طَلَبَهُ الْعَبْدُ مِنْهُ بِالسُّؤَالِ يُقَالُ لَهُ بِاعْتِبَارِ مُوَافَقَةِ طَلَبِ الْعَبْدِ مُطِيعًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ” «إِنْ أَطَعْتَ اللَّهَ أَطَاعَكَ» ” أَيْ إِنْ فَعَلْتَ مَا أَرَادَ فَعَلَ مَا تُرِيدُ، وَلَيْسَ طَلَبُ الْعَبْدِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِجِهَةِ السُّؤَالِ لِلَّهِ أَمْرًا، إِذِ الْأَمْرُ لِلَّهِ قَبِيحٌ شَرَعًا، بِخِلَافِ السُّؤَالِ، وَيُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِمَا يُعَدُّ فَاعِلُهُ مُطِيعًا فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ، وَالْبَارِي تَعَالَى لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَالْأَقْرَبُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْقَوْلُ الْجَارِي عَلَى قَاعِدَةِ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ، الْأَمْرُ طَلَبُ الْفِعْلِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ.
فَقَوْلُنَا: (طَلَبُ الْفِعْلِ) احْتِرَازٌ عَنِ النَّهْيِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، وَقَوْلُنَا: (عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ) احْتِرَازٌ عَنِ الطَّلَبِ بِجِهَةِ الدُّعَاءِ وَالِالْتِمَاسِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُكُمُ (الْأَمْرُ هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ) إِنْ أَرَدْتُمْ بِهِ الْإِرَادَةَ، فَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَيْسَ مَذْهَبًا لَكُمْ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ غَيْرَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْوِيرِهِ، وَإِلَّا كَانَ فِيهِ تَعْرِيفُ الْأَمْرِ بِمَا هُوَ أَخْفَى مِنَ الْأَمْرِ.

قُلْنَا إِجْمَاعُ الْعُقَلَاءِ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، وَأَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْجُودٌ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا امْتِنَاعَ تَفْسِيرِهِ بِالصِّيغَةِ وَالْإِرَادَةِ بِمَا سَبَقَ، فَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْنِيُّ بِالطَّلَبِ، وَالنِّزَاعُ فِي تَسْمِيَتِهِ بِالطَّلَبِ بَعْدَ الْمُوَافَقَةِ عَلَى وُجُودِهِ، فَآيِلٌ إِلَى خِلَافٍ لَفْظِيٍّ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *