كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ عَلَى التَّعْيِينِ]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ (2) الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ عَلَى التَّعْيِينِ (3) هَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ: وَتَفْصِيلُ الْمَذَاهِبِ: أَمَّا أَصْحَابُنَا فَالْأَمْرُ عِنْدَهُمْ هُوَ الطَّلَبُ الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ بِعَيْنِهِ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، وَإِنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ بِعَيْنِهِ هُوَ طَلَبُ تَرْكِ أَضْدَادِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِي أَوَّلِ أَقْوَالِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الْأَضْدَادِ لَا أَنَّ الْأَمْرَ هُوَ عَيْنُ النَّهْيِ، وَهُوَ آخِرُ مَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي فِي آخِرِ أَقْوَالِهِ (4) .
(1) وَأَيْضًا الْأَمْرُ فِي الْآيَتَيْنِ دَالٌّ عَلَى الْفَوْرِ بِمَادَّتِهِ لَا بِصِيغَتِهِ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِمَا اسْتِدْلَالٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَأَيْضًا الِاسْتِدْلَالُ بِهِمَا عَلَى إِفَادَةِ الْأَمْرِ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ النُّصُوصِ الْفَوْرِيَّةِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ، بِدَلِيلٍ خَارِجٍ، وَالنِّزَاعُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ مِنَ الْقَرَائِنِ
(2) انْظُرْ ص 118 – 159 مِنْ ج 20 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى لِابْنِ تَيْمِيَّةَ
(3) يَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ شَيْئًا مُعَيَّنًا، كَصِيَامِ رَمَضَانَ فَإِنْ كَانَ مُبْهَمًا كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِأَحَدِهَا نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ مِنْهَا، فَالْأَمْرُ بِإِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لَيْسَ لَهَا نَهْيًا عَنِ الْخَصْلَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ وَلَا عَنْ إِحْدَاهُمَا
(4) أَبُو بَكْرٍ – هُوَ الْبَاقِلَّانِيُّ – وَقَوْلُهُ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً هُوَ كَلَامٌ نَفْسِيٌّ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ، وَأَنَّهُ يَتَنَوَّعُ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلَّقَاتِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا ص 153 مِنْ ج1
وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا (1) وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ.
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ: فَالْأَمْرُ عِنْدَهُمْ نَفْسُ صِيغَةِ ” افْعَلْ ” وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عَيْنَ صِيغَةِ ” افْعَلْ ” لَا تَكُونُ نَهْيًا ; لِأَنَّ صِيغَةَ النَّهْيِ ” لَا تَفْعَلْ ” وَلَيْسَ إِحْدَاهُمَا عَيْنَ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ هَلْ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ أَضْدَادِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى.
فَذَهَبَ الْقُدَمَاءُ مِنْ مَشَايِخِ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى مَنْعِهِ، وَمِنَ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْ صَارَ إِلَيْهِ، كَالْعَارِضِيِّ (2) وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُعْتَبَرِينَ مِنْهُمْ.
وَمَعْنَى كَوْنِهِ نَهْيًا عَنِ الْأَضْدَادِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ، أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ تَقْتَضِي إِيجَادَ الْفِعْلِ، وَالْمَنْعَ مِنْ كُلِّ مَا يُمْنَعُ مِنْهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ أَمْرِ الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ، وَحَكَمَ بِأَنَّ أَمْرَ الْإِيجَابِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ أَضْدَادِهِ، وَمُقَبِّحًا لَهَا، لِكَوْنِهَا مَانِعَةً مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبِ، بِخِلَافِ الْمَنْدُوبِ.
وَلِهَذَا فَإِنَّ أَضْدَادَ الْمَنْدُوبِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهَا، لَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ وَلَا نَهْيَ تَنْزِيهٍ.
وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ نَقُولَ بِجَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، أَوْ لَا نَقُولَ بِهِ، فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِهِ، عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ (رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ) كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، فَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ لَا يَكُونُ بِعَيْنِهِ نَهْيًا عَنْ أَضْدَادِهِ، وَلَا مُسْتَلْزِمًا لِلنَّهْيِ عَنْهَا، بَلْ جَائِزٌ أَنْ نُؤْمَرَ بِالْفِعْلِ وَبِضِدِّهِ فِي الْحَالَةِ الْوَاحِدَةِ، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ لَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ (3) .
(1) أَيْ لَيْسَ عَيْنُهُ وَلَا مُسْتَلْزِمًا لَهُ، انْظُرْ مَسْأَلَةَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ وَالتَّعْلِيقَ عَلَيْهَا فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ
(2) كَالْعَارِضِيِّ – كَأَنَّ فِيهِ تَحْرِيفًا وَلَعَلَّ الْأَصْلَ كَالْقَاضِي وَهُوَ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْهَمْدَانِيُّ، وَهَذَا الرَّأْيُ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ مَعَ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ فَانْظُرْهُ
(3) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ ” الْأَصْلِ الثَّالِثِ فِي الْمَحْكُومِ فِيهِ ” وَمَا عَلَيْهَا مِنَ التَّعْلِيقِ
وَإِنْ مَنَعْنَا ذَلِكَ فَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ مُسْتَلْزِمًا لِلنَّهْيِ عَنْ أَضْدَادِهِ، لَا أَنْ يَكُونَ عَيْنُ الْأَمْرِ هُوَ عَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الضِّدِّ (1) وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ أَمْرَ إِيجَابٍ أَوْ نَدْبٍ.
أَمَّا أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْأَضْدَادِ، فَلِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِتَرْكِ أَضْدَادِهِ.
وَمَا لَا يَتِمُّ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ دُونَ تَرْكِهِ، فَهُوَ وَاجِبُ التَّرْكِ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ، وَمَنْدُوبٌ إِلَى تَرْكِهِ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ، عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.
وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، غَيْرَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ أَضْدَادِ الْوَاجِبِ يَكُونُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ، وَعَنْ أَضْدَادِ الْمَنْدُوبِ نَهْيَ كَرَاهَةٍ وَتَنْزِيهٍ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَيْنُ الْأَمْرِ هُوَ عَيْنَ النَّهْيِ. فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْأَمْرَ هُوَ صِيغَةُ (افْعَلْ) فَظَاهِرٌ، عَلَى مَا سَبَقَ (2) وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا إِنَّ الْأَمْرَ هُوَ الطَّلَبُ الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ، فَلِأَنَّا إِذَا فَرَضْنَا الْكَلَامَ فِي الطَّلَبِ النَّفْسَانِيِّ الْقَدِيمِ، فَهُوَ وَإِنِ اتَّحَدَ عَلَى أَصْلِنَا (3) فَإِنَّمَا يَكُونُ أَمْرًا بِسَبَبِ تَعَلُّقِهِ بِإِيجَادِ الْفِعْلِ، وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَا يَكُونُ نَهْيًا، بِسَبَبِ تَعَلُّقِهِ بِتَرْكِ الْفِعْلِ، وَهُمَا بِسَبَبِ التَّغَايُرِ فِي التَّعَلُّقِ وَالْمُتَعَلِّقِ مُتَغَايِرَانِ.
وَإِنْ فَرَضْنَا الْكَلَامَ فِي الطَّلَبِ الْقَائِمِ بِالْمَخْلُوقِ فَهُوَ وَإِنْ تَعَدَّدَ، فَالْأَمْرُ مِنْهُ أَيْضًا إِنَّمَا هُوَ الطَّلَبُ الْمُتَعَلِّقُ بِتَرْكِهِ وَهُمَا غَيْرَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ مُسْتَلْزِمًا لِلنَّهْيِ عَنْ أَضْدَادِهِ لَكَانَ الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ مُسْتَلْزِمًا لِلنَّهْيِ عَنْ جَمِيعِ الْمُبَاحَاتِ الْمُضَادَّةِ لَهَا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ حَرَامًا إِنْ كَانَ النَّهْيُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ مَكْرُوهَةً إِنْ كَانَ النَّهْيُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ.
وَخَرَجَ الْمُبَاحُ عَنْ كَوْنِهِ مُبَاحًا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكَعْبِيُّ (4) مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ،
(1) لَمْ يَزِدِ الْآمِدِيُّ فِي اخْتِيَارِهِ التَّفْصِيلَ عَلَى أَنْ بَنَاهُ عَلَى التَّرْدِيدِ بَيْنَ جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ وَمَنْعِهِ، وَلَمْ يَخْتَرْ هُنَا وَاحِدًا مِنْ طَرَفَيِ التَّرْدِيدِ. وَبِذَلِكَ لَا يَكُونُ قَدِ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ قَوْلًا مُعَيَّنًا فِي الْمَسْأَلَةِ
(2) أَيْ مِنْ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ افْعَلْ وَصِيغَةَ النَّهْيِ لَا تَفْعَلْ وَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا عَيْنَ الْأُخْرَى
(3) أَيِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا فِي ص 153 مِنْ ج 1 وَأَنَّ الْكَلَامَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَحَدُهُمَا بِدَلِيلٍ
(4) تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ تَعْلِيقًا فِي ص 124 مِنْ ج1
بَلْ وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَا عَدَا الْعِبَادَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمُضَادَّةِ لَهَا مَنْهِيًّا عَنْهَا وَمُحَرَّمَةً أَوْ مَكْرُوهَةً وَهُوَ مُحَالٌ.
كَيْفَ وَإِنَّ الْآمِرَ بِالْفِعْلِ قَدْ يَكُونُ غَافِلًا عَنْ أَضْدَادِهِ، وَالْغَافِلُ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ نَاهِيًا عَنْهُ ; لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَسْتَدْعِي الْعِلْمَ بِهِ، وَالْعِلْمُ بِالشَّيْءِ مَعَ الذُّهُولِ عَنْهُ مُحَالٌ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلنَّهْيِ عَنْ أَضْدَادِهِ، لَكِنْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الْأَضْدَادِ غَيْرَ الْأَمْرِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ هُوَ بِعَيْنِهِ، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ.
وَمَأْخَذُهُ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ النَّهْيُ عَنْ أَضْدَادِهِ، فَذَلِكَ النَّهْيُ إِنْ كَانَ هُوَ غَيْرَ الْأَمْرِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ضِدًّا لَهُ أَوْ مِثْلًا (1) أَوْ خِلَافًا. لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالْمُضَادَّةِ، وَإِلَّا لَمَا اجْتَمَعَا، وَقَدِ اجْتَمَعَا.
وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مِثْلًا لِأَنَّ الْمُتَمَاثِلَاتِ أَضْدَادٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْكَلَامِيَّاتِ.
وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ خِلَافًا، وَإِلَّا جَازَ وُجُودُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، كَمَا فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَلَجَازَ أَنْ يُوجَدَ أَحَدُهُمَا مَعَ ضِدِّ الْآخَرِ، كَمَا يُوجَدُ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ مَعَ الْكَرَاهَةِ الْمُضَادَّةِ لِإِرَادَتِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ بِالْحَرَكَةِ الْمُضَادَّةِ لِلسُّكُونِ إِذَا كَانَ النَّهْيُ عَنِ السُّكُونِ مُخَالِفًا لِلْأَمْرِ بِالْحَرَكَةِ أَنْ يَجْتَمِعَ الْأَمْرُ بِالْحَرَكَةِ وَالْأَمْرُ بِالسُّكُونِ الْمُضَادِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَفِيهِ الْأَمْرُ بِالضِّدَّيْنِ مَعًا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَى مَا وَقَعَ بِهِ الْفَرْضُ، وَإِذَا بَطُلَتِ الْمُغَايَرَةُ تَعَيَّنَ الِاتِّحَادُ.
وَعَلَى هَذَا فَالْحَرَكَةُ عَيْنُ تَرْكِ
(1) الضِّدَّانِ هُمَا الْأَمْرَانِ الْوُجُودِيَّانِ اللَّذَانِ بَيْنَهُمَا غَايَةُ الْخِلَافِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ، وَقَدْ يَرْتَفِعَانِ مِثْلَ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَالْمِثْلَانِ مِثْلُ: سَوَادٍ وَسَوَادٍ. وَهُمَا مُتَضَادَّانِ إِنْ نُظِرَ إِلَى أَشْخَاصِهِمَا فِي النَّوْعِ، وَغَيْرُ مُتَضَادَّيْنِ إِنْ نُظِرَ إِلَى نَوْعِ أَشْخَاصِهِمَا، وَإِنِ اتَّحَدَ الْمَحَلُّ ازْدَادَ النَّوْعُ قُوَّةً بِتَعْدَادِ الْأَشْخَاصِ – انْظُرْ مَبْحَثَ تَعَدُّدِ الْأَحْكَامِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ لِتَعَدُّدِ الْعِلَلِ فِي ص 171 مِنْ ج 20 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى لِابْنِ تَيْمِيَّةَ وَانْظُرْ ص 416 وَمَا بَعْدَهُ مِنْ مُسْوَدَةِ آلِ تَيْمِيَّةَ
السُّكُونِ، وَشَغْلُ الْجَوْهَرِ بِحَيِّزٍ هُوَ عَيْنُ تَفْرِيغِهِ لِغَيْرِهِ (1) وَعَيْنُ الْقُرْبِ مِنَ الْمَشْرِقِ بِالْفِعْلِ الْوَاحِدِ هُوَ عَيْنُ الْبُعْدِ مِنَ الْمَغْرِبِ، فَطَلَبُ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ طَلَبُ الْآخَرِ لِاتِّحَادِ الْمَطْلُوبِ.
وَالْجَوَابُ: عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّا لَا نَمْنَعُ مِنْ كَوْنِ الْمُبَاحَاتِ بَلِ الْوَاجِبَاتِ الْمُضَادَّةِ الْمَأْمُورِ بِهَا مَنْهِيًّا عَنْهَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مَانِعَةً مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، لَا فِي ذَاتِهَا كَمَا نَقُولُ فِي فِعْلِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، فَإِنَّهُ فِي ذَاتِهِ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ مِنْ جِهَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ شَغْلِ مِلْكِ الْغَيْرِ، كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ.
وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا يُهَوَّلُ بِهِ مِنْ خُرُوجِ الْمُبَاحَاتِ عَنْ كَوْنِهَا مُبَاحَةً، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ قِيلَ بِكَوْنِهَا مَنْهِيًّا عَنْهَا فِي ذَوَاتِهَا.
وَأَمَّا إِذَا قِيلَ بِكَوْنِهَا مَنْهِيًّا مَانِعَةٌ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَا.
قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ قَدْ يَأْمُرُ بِالْفِعْلِ مَنْ هُوَ غَافِلٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْآمِرَ بِالشَّيْءِ عِنْدَ كَوْنِهِ آمِرًا بِهِ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ غَافِلًا عَنْ طَلَبِ تَرْكِ مَا يَمْنَعُ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ غَافِلًا عَنْ تَفْصِيلِهِ.
وَنَحْنُ إِنَّمَا نُرِيدُ بِقَوْلِنَا إِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الْأَضْدَادِ مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ لَا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ، قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الْأَضْدَادِ غَيْرَ الْأَمْرِ، قُلْنَا: دَلِيلُهُ مَا سَبَقَ (2) .
وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مِنَ الدَّلِيلِ، فَالْمُخْتَارُ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ قِسْمُ التَّخَالُفِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ انْفِكَاكِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا مِنْ قَبِيلِ الْمُخْتَلِفَاتِ الْمُتَلَازِمَةِ كَمَا فِي الْمُتَضَايِفَاتِ (3) وَكُلِّ مُتَلَازِمَيْنِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَبِهِ
(1) فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ، وَشَغْلُ الْحَيِّزُ بِجَوْهَرٍ هُوَ عَيْنُ تَفْرِيغِهِ مِنْ غَيْرِهِ
(2) أَيْ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ طَلَبُ الْفِعْلِ، وَالنَّهْيَ طَلَبُ التَّرْكِ
(3) الْمُخْتَلِفَانِ كُلُّ مَعْنَيَيْنِ بَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِمَا إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ كَالْحُمْرَةِ وَالْمَزَازَةِ فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ فِي ذَاتِهِمَا، وَيُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي حَبِّ الزَّمَانِ مَثَلًا. وَقَدْ يَتَلَازَمَانِ كَمَا فِي الْمُتَضَايِفَيْنِ. وَالْمُتَضَايِفَانِ: كُلُّ نِسْبَتَيْنِ تَوَقَّفَ تَعَقُّلُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْأُخْرَى كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ فَوَصْفُ الْأُبُوَّةِ لَا يُعْقَلُ إِلَّا بِتَعَقُّلِ وَصْفِ الْبُنُوَّةِ وَكَذَا الْعَكْسُ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتُ الْأَبِ مُتَقَدِّمَةً فِي الْوُجُودِ عَلَى ذَاتِ الِابْنِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى مَا قَامَ بِكُلٍّ مِنْ صِفَتِهِ
يَمْتَنِعُ (1) الْجَمْعُ بَيْنَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا، وَضِدِّ الْآخَرِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمُخْتَلِفَاتِ جَوَازُهُ فِي الْبَاقِي، وَإِذَا بَطَلَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ دَلِيلِ الِاتِّحَادِ بَطَلَ مَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ.
[الْمَسْأَلَةُ السابِعَةُ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى الْإِجْزَاءِ]
الْمَسْأَلَةُ السابِعَةُ
مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَالْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى الْإِجْزَاءِ، خِلَافًا لِلْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَمُتَّبِعِيهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِجْزَاءِ.
وَقَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْحِجَاجِ، لَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ مَعْنَى الْإِجْزَاءِ لِيَكُونَ التَّوَارُدُ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى مَحَزٍّ وَاحِدٍ، فَنَقُولُ كَوْنُ الْفِعْلِ مُجْزِئًا، قَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنَى أَنَّهُ امْتَثَلَ بِهِ الْأَمْرُ عِنْدَمَا إِذَا أُتِيَ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُسْقِطٌ لِلْقَضَاءِ.
وَإِذَا عُلِمَ مَعْنَى كَوْنِ الْفِعْلِ مُجْزِئًا فَقَدِ اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، يَكُونُ مُجْزِئًا بِمَعْنَى كَوْنِهِ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ.
وَإِنَّمَا خَالَفَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي كَوْنِهِ مُجْزِئًا بِالِاعْتِبَارِ الْآخَرِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ، وَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ فِعْلِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ وَهُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي عَمْدِهِ.
وَعَلَى هَذَا، فَكُلُّ مَنِ اسْتَدَلَّ مِنْ أَصْحَابِنَا كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْإِجْزَاءِ عَلَى كَوْنِ الْفِعْلِ امْتِثَالًا وَخُرُوجًا عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، فَقَدِ اسْتَدَلَّ عَلَى مَحَلِّ الْوِفَاقِ وَحَادَ عَنْ مَوْضِعِ النِّزِاعِ.
لَكِنْ قَدْ أَوْرَدَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إِشْكَالًا عَلَى تَفْسِيرِ إِجْزَاءِ الْفِعْلِ بِكَوْنِهِ مُسْقِطًا لِلْقَضَاءِ، وَقَالَ: لَوْ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ مَعَ الطَّهَارَةِ فَأَتَى بِهَا مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ، وَمَاتَ عَقِيبَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فِعْلُهُ مُجْزِئًا، وَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ سَاقِطًا (2) .
وَرُبَّمَا زَادَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ: يَمْتَنِعُ تَفْسِيرُ الْإِجْزَاءِ بِسُقُوطِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّا نُعَلِّلُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ بِكَوْنِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ مُجْزِئًا، وَالْعِلَّةُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مُغَايِرَةً لِلْمَعْلُولِ.
(1) وَبِهِ يَمْتَنِعُ – أَيْ بِتَقْدِيرِ التَّلَازُمِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ يَمْتَنِعُ إِلَخْ
(2) يَعْنِي أَنَّهُ فَسَّرَ الْإِجْزَاءَ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ فَإِنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ قَدْ يُوجَدُ مَعَ الْإِجْزَاءِ وَنَقِيضِهِ
وَالْوَجْهُ فِي إِبْطَالِهِمَا (1) أَنْ يُقَالَ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْإِجْزَاءَ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ سُقُوطِ الْقَضَاءِ مُطْلَقًا لِيَلْزَمَ مَا قِيلَ، بَلْ سُقُوطُ الْقَضَاءِ بِالْفِعْلِ فِي حَقِّ مَنْ يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ (2) .
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ عِلَّةَ صِحَّةِ (3) وُجُوبِ الْقَضَاءِ إِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاكُ مَا فَاتَ مِنْ مَصْلَحَةِ أَصْلِ الْعِبَادَةِ، أَوْ صِفَتِهَا، أَوْ مَصْلَحَةِ مَا انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ.
وَلَمْ يَجِبْ لِمَانِعٍ ” لَا مَا قِيلَ ” (4) .
وَإِذَا تَنَقَّحَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فَنَعُودُ إِلَى الْمَقْصُودِ، فَنَقُولُ: الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَى بِهِ الْمَأْمُورُ عَلَى نَحْوِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ وَلَا نَقْصٍ فِي صِفَتِهِ وَشَرْطِهِ، أَوْ أَتَى بِهِ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْخَلَلِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: ” أَنَّهُ ” لَا نِزَاعَ فِي كَوْنِهِ غَيْرَ مُجْزِئٍ وَلَا مُسْقِطٍ لِلْقَضَاءِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ وُرُودُ أَمْرٍ مُجَدَّدٍ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِفِعْلٍ مِثْلِ مَا أُمِرَ بِهِ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي وُرُودِ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ مُتَّصِفًا بِصِفَةِ الْقَضَاءِ، وَالْحَقُّ نَفْيُهُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْأَدَاءِ، أَوْ مَصْلَحَةِ صِفَتِهِ، أَوْ شَرْطِهِ.
وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ قَدْ فَعَلَ عَلَى جِهَةِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ، مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ وَلَا خَلَلٍ فَوُجُوبُ الْقَضَاءِ اسْتِدْرَاكًا لِمَا قَدْ حَصَلَ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَمَنْ يَنْفِي الْقَضَاءَ إِنَّمَا يَنْفِيهِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، وَهَذَا مِمَّا يَتَعَذَّرُ مَعَ تَحْقِيقِهِ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُنْكِرُ إِمْكَانَ وُرُودِ الْأَمْرِ خَارِجَ الْوَقْتِ، بِمِثْلِ مَا فَعَلَ أَوَّلًا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُسَمِّيهِ قَضَاءً، وَمَنْ سَمَّاهُ قَضَاءً فَحَاصِلُ النِّزَاعِ مَعَهُ آيِلٌ إِلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى.
(1) فِي إِبْطَالِهِمَا – أَيِ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ وَمَا زَادَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ
(2) هَذَا جَوَابٌ بِتَحْرِيرِ الْمُرَادِ بِسُقُوطِ الْقَضَاءِ
(3) الْمُرَادُ بِالصِّحَّةِ الْإِمْكَانُ الْمُقَابِلُ لِلِامْتِنَاعِ لَا مَا يُقَابِلُ الْبُطْلَانَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ سَابِقًا عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ وَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ فِعْلِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ. وَقَوْلُهُ بَعْدُ وَإِنْ كَانَ لَا يُنْكِرُ إِمْكَانَ وُرُودِ الْأَمْرِ خَارِجَ الْوَقْتِ – وَكَذَا مَا يَذْكُرُهُ فِي الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ شُبَهِ الْخُصُومِ
(4) أَيْ مِنْ أَنَّ عِلَّةَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ أَنَّ الْفِعْلَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ مُجْزِئًا
شُبَهُ الْخُصُومِ: الْأُولَى أَنَّ مَنْ صَلَّى وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ – وَلَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا – مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهَا مَعَ الطَّهَارَةِ حَقِيقَةً فَهُوَ عَاصٍ آثِمٌ بِصَلَاتِهِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا، وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِالصَّلَاةِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فَقَدْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِذْ لَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا.
وَكَذَلِكَ الْمُفْسِدُ لِلْحَجِّ مَأْمُورٌ بِمُضِيِّهِ فِي حَجِّهِ الْفَاسِدِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِ طَلَبِ الْفِعْلِ، وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى امْتِنَاعِ التَّكْلِيفِ بِمِثْلِ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ، فَلَا يَكُونُ مُقْتَضِيًا لَهُ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْأَمْرَ مِثْلُ النَّهْيِ فِي الطَّلَبِ، وَالنَّهْيُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَالْأَمْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ مُجْزِئًا.
وَجَوَابُ الْأُولَى: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ فِيمَا إِذَا صَلَّى عَلَى ظَنِّ الطَّهَارَةِ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا عَلَى قَوْلٍ لَنَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا وُجُوبَ الْقَضَاءِ لَكِنَّهُ لَيْسَ وَاجِبًا عَمَّا أُمِرَ بِهِ مِنَ الصَّلَاةِ الْمَظْنُونِ طَهَارَتُهَا، وَلَا عَمَّا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْمُضِيِّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، وَإِنَّمَا الْقَضَاءُ اسْتِدْرَاكٌ لِمَصْلَحَةِ مَا أُمِرَ بِهِ أَوَّلًا مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الطَّهَارَةِ، وَالْحَجُّ الْعُرْيُ عَنِ الْفَسَادِ.
وَعَنِ الثَّانِيَةِ: أَنَّا لَا نَمْنَعُ مِنْ وُرُودِ أَمْرٍ يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا فَعَلَ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا الْمُدَّعَى أَنَّهُ إِذَا أَتَى الْمَأْمُورُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى نَحْوِ مَا أُمِرَ بِهِ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّفْسِيرِ (1)
وَعَنِ الثَّالِثَةِ: أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ وَإِنْ سُلِّمَ صِحَّتُهُ، غَيْرَ أَنَّا لَا نَقُولُ بِأَنَّ الْأَمْرَ يَدُلُّ عَلَى الْإِجْزَاءِ بِمَعْنَى امْتِنَاعِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ، بَلِ امْتِثَالُ الْأَمْرِ هُوَ الْمَانِعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ (2) وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
(1) مُحَصِّلُهُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالدَّلِيلِ الثَّانِي اسْتِدْلَالٌ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ لَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.
(2) أَيْ مِنْ أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ شُرِعَ اسْتِدْرَاكًا لِتَحْصِيلِ مَا فَاتَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، فَوُجُوبُهُ مَعَ الِامْتِثَالِ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ