تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ أَقَلِّ الْجُمَعِ]

[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ أَقَلِّ الْجُمَعِ]

  • بواسطة

كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي

أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)


[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ أَقَلِّ الْجُمَعِ]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَقَلِّ الْجُمَعِ هَلْ هُوَ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ؟ وَلَيْسَ مَحَلُّ الْخِلَافِ مَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ لَفْظِ الْجَمْعِ لُغَةً، وَهُوَ ضَمُّ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِي الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَمَا زَادَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنَّمَا مَحَلُّ النِّزَاعِ فِي اللَّفْظِ الْمُسَمَّى بِالْجَمْعِ فِي اللُّغَةِ مِثْلِ قَوْلِهِمْ: رِجَالٌ وَمُسْلِمُونَ.

وَإِذْ تُنُقِّحَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فَنَقُولُ مَذْهَبُ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمَالِكٍ وَدَاوُدَ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ (1) وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – كَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ اثْنَانِ، وَمَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَشَايِخِ الْمُعْتَزِلَةِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ ثَلَاثَةٌ، وَذَهَبَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ (2) إِلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ رَدُّ لَفْظِ الْجَمْعِ إِلَى الْوَاحِدِ.

احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِحُجَجٍ مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِشْعَارِ اللُّغَةِ وَالْإِطْلَاقِ.

أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} ، وَأَرَادَ بِهِ مُوسَى وَهَارُونَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ – إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} وَأَرَادَ بِهِ الْأَخَوَيْنِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} ، وَأَرَادَ بِهِ يُوسُفَ وَأَخَاهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} ، وَأَرَادَ بِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} .


(1) هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، شَارَكَ أَبَا بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيَّ فِي الْأَخْذِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُجَاهِدٍ الطَّائِيِّ صَاحِبِ الْأَشْعَرِيِّ، وَعَنْهُ أَخَذَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَلِيٍّ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَعَنْ أَبِي الْقَاسِمِ أَخَذَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَعَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَخْذَ الْفَرَالِيُّ
(2) إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ هُوَ أَبُو الْمَعَالِي عَبْدُ الْمَلِكِ الْجُوَيْنِيُّ مَاتَ سَنَةَ 487

وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ قَالَ: ” «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» ” (1) .

وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْإِشْعَارِ اللُّغَوِيِّ فَهُوَ أَنَّ اسْمَ الْجَمَاعَةِ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاجْتِمَاعِ، وَهُوَ ضَمُّ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الِاثْنَيْنِ حَسَبَ تَحَقُّقِهِ فِي الثَّلَاثَةِ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ تَتَصَرَّفُ الْعَرَبُ وَتَقُولُ: جَمَعْتُ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو فَاجْتَمَعَا وَهُمَا مُجْتَمِعَانِ، كَمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الثَّلَاثَةِ، فَكَانَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الِاثْنَيْنِ حَقِيقَةً، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْإِطْلَاقِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاثْنَيْنِ يُخْبِرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ، فَيَقُولَانِ: قُمْنَا وَقَعَدْنَا وَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا كَمَا تَقُولُ الثَّلَاثَةُ.

الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ فِي مَخَافَةٍ: أَقْبَلَ الرِّجَالُ.

وَذَلِكَ كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ حَقِيقَةٌ فِي الِاثْنَيْنِ، إِذِ الْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ.

قَالَ النَّافُونَ لِذَلِكَ: أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} ، فَالْمُرَادُ بِهِ مُوسَى وَهَارُونُ وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَهُمْ جَمْعٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فَكُلُّ طَائِفَةٍ جَمْعٌ.

وَأَمَّا قِصَّةُ دَاوُدَ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا، فَإِنَّ الْخَصْمَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَيُقَالُ: هَذَا خَصْمِي وَهَؤُلَاءِ خَصْمِي، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ كَانَ وَاحِدًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} ، فَالْمُرَادُ بِهِ الثَّلَاثَةُ، وَحَيْثُ وَرَّثْنَاهَا السُّدُسُ مَعَ الْأَخَوَيْنِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِمَنْطُوقِ اللَّفْظِ، بَلْ لِمَفْهُومِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ (2) .

وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} يُوسُفُ وَأَخُوهُ وَشَمْعُونُ الَّذِي قَالَ {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ}


(1) قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: – بَابُ اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظٌ حَدِيثٌ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ مِنْهَا فِي ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ – انْظُرْ تَفْصِيلَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي فَتْحِ الْبَارِي
(2) لَمْ يَنْعَقِدْ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَوْرِيثِ الْأُمِّ السُّدُسَ مَعَ الْأَخَوَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا يَجِيءُ مِنْ خِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِعُثْمَانَ وَمُنَاقَشَتِهِ إِيَّاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ

دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ وَالْمَحْكُومُ لَهُ وَهُمْ جَمَاعَةٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ دَاوُدَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فَهُوَ أَشْبَهُ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ هَاهُنَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْخِطَابَ وَإِنْ كَانَ مَعَ اثْنَيْنِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ سِوَى قَلْبٍ وَاحِدٍ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ اسْمُ الْقُلُوبِ عَلَى مَا يُوجَدُ لِلْقَلْبِ الْوَاحِدِ مِنَ التَّرَدُّدَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ إِلَى الْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ مَجَازًا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ لِمَنْ مَالَ قَلْبُهُ إِلَى جِهَتَيْنِ أَوْ تَرَدَّدَ بَيْنَهُمَا: إِنَّهُ ذُو قَلْبَيْنِ وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ: {قُلُوبُكُمَا} عَلَى جِهَةِ التَّجَوُّزِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ حَقِيقَةً، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا قَالَ: {قُلُوبُكُمَا} تَجَوُّزًا حَذَرًا مِنِ اسْتِثْقَالِ الْجَمْعِ بَيْنَ تَثْنِيَتَيْنِ.

وَقَوْلُهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» ” إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّ حُكْمَهُمَا حُكْمُ الْجَمَاعَةِ فِي انْعِقَادِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ بِهِمَا وَإِدْرَاكِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ (1) ، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنْ يُعَرِّفَنَا الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةِ لَا الْأُمُورَ اللُّغَوِيَّةِ، لِكَوْنِهَا مَعْلُومَةً لِلْمُخَاطَبِ وَلِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَدِلَّةِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِشْعَارِ اللُّغَوِيِّ فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: وَإِنْ كَانَ مَا مِنْهُ اشْتِقَاقُ لَفْظِ الْجَمَاعَةِ فِي الثَّلَاثَةِ مَوْجُودًا فِي الِاثْنَيْنِ، فَلَا يَلْزَمُ إِطْلَاقُ اسْمِ الْجَمَاعَةِ عَلَيْهِمَا إِذْ هُوَ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ، وَلِهَذَا فَإِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي صَحَّ مِنْهُ اشْتِقَاقُ اسْمِ الْقَارُورَةِ لِلزُّجَاجَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَهُوَ قَرَارُ الْمَائِعِ فِيهَا مُتَحَقِّقٌ فِي الْجَرَّةِ وَالْكُوزِ، وَلَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُمَا قَارُورَةً.

كَيْفَ وَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَطَّرِدُ فِي اسْمِ الرِّجَالِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ إِذْ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَمْعِ، وَالْخِلَافُ وَاقِعٌ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى الِاثْنَيْنِ حَقِيقَةً.


(1) الْأَوْلَى أَنْ يُجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَبِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، إِذِ الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُسَمَّى فِي اللُّغَةِ جُمُوعًا لَا فِي مَادَّةِ الْجَمْعِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَحْرِيرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَكَمَا سَيَجِيءُ لَهُ آخِرَ الْجَوَابِ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِشْعَارِ اللُّغَوِيِّ

وَجَوَابُ الْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ بِدَلِيلِ صِحَّةِ قَوْلِ الْوَاحِدِ لِذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجَمَاعَةٍ.

وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِخْبَارُ غَيْرِهِمَا عَنْهُمَا بِذَلِكَ، فَلَا يُقَالُ: عَنِ الِاثْنَيْنِ قَامُوا وَقَعَدُوا، بَلْ قَامَا وَقَعَدَا.

وَجَوَابُ الْإِطْلَاقِ الثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمَاعَةٌ، بِدَلِيلِ صِحَّةِ قَوْلِهِ: جَاءَ الرِّجَالُ عِنْدَمَا إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ الْوَاحِدُ فِي حَالِ الْمَخَافَةِ، وَالْوَاحِدُ لَيْسَ بِجَمْعٍ بِالِاتِّفَاقِ.

وَأَمَّا حُجَجُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ فَسِتٌّ: الْأُولَى: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانَ حِينَ رَدَّ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ بِأَخَوَيْنِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} ، وَلَيْسَ الْأَخَوَانِ إِخْوَةٌ فِي لِسَانِ قَوْمِكَ. فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُضَ أَمْرًا كَانَ قَبْلِي وَتَوَارَثَهُ النَّاسُ (1) ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى اللُّغَةِ لَمَا احْتَجَّ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى عُثْمَانَ، وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ عُثْمَانُ وَهُمَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَفُصَحَاءِ الْعَرَبِ.

الثَّانِيَةُ: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ فَرَّقُوا بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَرِجَالٍ، فَإِطْلَاقُ اسْمِ الرِّجَالِ عَلَى الرَّجُلَيْنِ رَفْعٌ لِهَذَا الْفَرْقِ.

الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ إِطْلَاقُ الرِّجَالِ عَلَى الرَّجُلَيْنِ لَصَحَّ نَعْتُهُمَا بِمَا يُنْعَتُ بِهِ الرِّجَالُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: جَاءَنِي رَجُلَانِ ثَلَاثَةٌ كَمَا يُقَالُ: جَاءَنِي رِجَالٌ ثَلَاثَةٌ، وَلَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: رَأَيْتُ اثْنَيْنِ رِجَالًا كَمَا يُقَالُ: رَأَيْتُ ثَلَاثَةَ رِجَالٍ.

الرَّابِعَةُ: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ فَرَّقُوا بَيْنَ ضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ فَقَالُوا فِي الِاثْنَيْنِ: فَعَلَا، وَفِي الْجَمِيعِ: فَعَلُوا.

الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: مَا رَأَيْتُ رِجَالًا، بَلْ رَجُلَيْنِ.

وَلَوْ كَانَ اسْمُ الرِّجَالِ لِلرَّجُلَيْنِ حَقِيقَةً لَمَا صَحَّ نَفْيُهُ.


(1) ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ لِآيَاتِ الْمَوَارِيثِ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَوَى هَذَا الْأَثَرَ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فِي صِحَّةِ هَذَا الْأَثَرِ نَظَرٌ فَإِنَّ شُعْبَةَ هَذَا تَكَلَّمَ فِيهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، فَارْجِعْ إِلَيْهِ

السَّادِسَةُ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ.

وَكَذَلِكَ فِي النَّذْرِ وَالْوَصِيَّةِ.

وَهَذِهِ الْحُجَجُ ضَعِيفَةٌ، أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى فَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: الْأَخَوَانِ أُخْوَةٌ.

وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَقَلُّ الْجُمَعِ اثْنَانِ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.

وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَهُوَ أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ وَالرِّجَالِ أَنَّ اسْمَ الرَّجُلَيْنِ جَمْعٌ خَاصٌّ بِالِاثْنَيْنِ، وَالرِّجَالُ جَمْعٌ عَامٌّ لِلِاثْنَيْنِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِمَا.

وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَهُوَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ نَعْتٌ لِلْجَمْعِ الْعَامِّ، وَهُوَ الرِّجَالُ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلْجَمْعِ الْخَاصِّ، وَهُوَ رَجُلَانِ، وَبِهِ يُعْرَفُ الْجَوَابُ عَنِ امْتِنَاعِ قَوْلِهِمْ: رَأَيْتُ اثْنَيْنِ رِجَالًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ رِجَالًا اسْمٌ لِلْجَمْعِ الْعَامِّ، وَهُوَ الثَّلَاثَةُ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أُعْطِيَ لِمَا دُونَ ذَلِكَ، وَبِهِ يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ ضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ وَضَمِيرِ الْجَمْعِ، فَإِنَّ ضَمِيرَ (فَعَلَا) لِجَمْعٍ خَاصٍّ، وَهُوَ الِاثْنَانِ، وَ (فَعَلُوا) ضَمِيرُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ.

وَأَمَّا الْخَامِسَةُ، فَإِنَّهُ إِذَا رَأَى رَجُلَيْنِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَصِحُّ قَوْلُهُ: مَا رَأَيْتُ رِجَالًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا زَادَ عَلَى الِاثْنَيْنِ.

وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَمَمْنُوعَةٌ عَلَى أَصْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ.

وَإِذَا عُرِفَ ضَعْفُ الْمَأْخَذِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَعَلَى النَّاظِرِ بِالِاجْتِهَادِ فِي التَّرْجِيحِ وَإِلَّا فَالْوَقْفُ لَازِمٌ (1) .


(1) اعْتَرَفَ الْآمِدِيُّ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ وَانْتَهَى مِنْهَا دُونَ أَنْ يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ رَأْيًا فِيهَا، وَذَلِكَ لِعَدَمِ سَلَامَةِ الْأَدِلَّةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فِي نَظَرِهِ، فَلَزِمَهُ الْقَوْلُ بِأَنَّ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ مَا هُوَ ظَنِّيٌّ بَلْ هُوَ مَشْكُوكٌ فِي صِحَّتِهِ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *