( فصل : اختَصَّ اللهُ نفسَه بالطيب ) | والمقصود أن الله سبحانه اختار من كل جنس أطيبه ، فاختصه لنفسه ، فإنه سبحانه وتعالى طيب لا يحب إلا الطيب ، ولا يقبل من القول والعمل والصدقة إلا الطيب .
وبهذا يعلم عنوان سعادة العبد وشقاوته ، فإن الطيب لا يناسبه إلا الطيب ولا يرضى إلا به ، ولا يسكن إلا إليه ، ولا يطمئن قلبه إلا به . |
فله من الكلامِ الكلامُ الطيب الذي لا يصعد إلى الله إلا هو ، وهو أشد نفرة عن الفحش في المقال والكذب والغيبة والنميمة والبهت وقول الزُّور وكل كلام خبيث .
وكذلك لا يألف من الأعمال إلا أطيبها ، وهي التي أجمعت على حسنها الفطر السليمة مع الشرائع النبوية ، وزكتها العقول الصحيحة ، مثل أن يعبد الله وحده لا شريك له ، ويؤثر مرضاته على هواه ، ويتحبب إليه بجهده ، ويحسن إلى خلقه ما استطاع ، فيفعل بهم ما يحبُّ أن يفعلوه به .
وله من الأخلاق أطيبها ، كالحلم والوقار ، والصبر والرحمة .
والوفاء والصدق ، وسلامة الصدر ، والتواضع ، وصيانة الوجه عن بذله وتذلله لغير الله .
وكذلك لا يختار من المطاعم إلا أطيبها ، وهو الحلال الهنيء الذي يُغذي البدن والروح أحسن تغذية مع سلامة العبد من تبعته .
وكذلك لا يختار من المناكح إلا أطيبها ، ومن الأصحاب إلا الطيبين .
فهذا ممن قال الله فيهم : الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون > 2 ! ( النحل الآية : 32 ) ومن الذين تقول لهم خزنة الجنة : سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين > 2 ! ( الزمر الآية : 73 ) .
وهذه الفاء تقتضي السببية ، أي : بسبب طيبكم فادخلوها . | وقال تعالى : ^ ( الخبيثات للخبيثين .
والخبيثون للخبيثات . والطيباتُ للطيبين . والطيبون للطيبات .
أولئك مبرَّؤن مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم ) ( النور الآية : 26 ) .
ففسرت بأن الكلمات الخبيثات للخبيثين ، والكلمات الطيبات للطيبين .
وفسِّرَت بالنساء الطيبات للرجال الطيبين وبالعكس ، وهي تعمّ ذلك وغيره .
والله سبحانه جعل الطيب بحذافيره في الجنة ، وجعل الخبيث بحذافيره في النار ، فدارٌ أُخلصت للطيب ، ودارٌ أخلصت للخبيث ، ودارٌ مزج فيها الخبيث بالطيب ، وهي هذه الدار ، فإذا كان يوم المعاد ، ميز الله الخبيث من الطيب ، فعاد الأمر إلى دارين فقط .
| والمقصود أن الله جعل للشقاوة والسعادة عنواناً يعرفان به ، وقد يكون في الرجل مادتان ، فأيهما غلبت عليه كان من أهلها ، فإن أراد الله أن بعبده خيراً طهره قبل الموافاة فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار .
وحكمته تعالى تأبى أن يجاوره العبد في داره بخبائثه ، فيدخله النار طهرة له ، وإقامة هذا النوع فيها على حسب سرعة زوال الخبائث وبطئها .
ولما كانت المشرك خبيث الذات ، لم تطهره النار ، كالكلب إذا دخل البحر .
ولما كان المؤمن الطيب بريئاً من الخبائث ، كانت النار حراماً عليه ، إذ ليس فيه ما يقتضي تطهيره ، فسبحان من بهرت حكمته العقول .