تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » فصل : في بِناءِ المسْجد

فصل : في بِناءِ المسْجد

  • بواسطة

 

مختصر زاد المعاد لابن القيم


1 ( فصل : في بِناءِ المسْجد ) 

 
قال الزهري : بركت ناقته صلى الله عليه وسلم عند موضع مسجده وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين ، وكان مربداً ليتيمين في حجر أسعد بن زرارة ، فساومهما فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالا : بل نهبه لك . فأبى حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير ، وكان جداراً ليس له سقف وقبلتُه إلى بيت المقدس ، وكان يصلي فيه ويجمّع أسعد بن زرارة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان فيه شجر غرقد ونخل ، وقبور للمشركين ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبور فنبشت ، وبالنخل والشجر فقطع ، وصفت في قبلة المسجد ، وجعل طوله مما يلي القبلة مائة ذراع إلى المؤخرة ، وفي الجانبين مثل ذلك أو دونه ، وجعل أساسه قريباً من ثلاثة أذرع ، ثم بنوه باللّبن ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبني معهم ، وينقل اللّبن والحجارة بنفسه ويقول : % ( اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة % فاغفر للأنصار والمهاجرة ) % | وكان يقول : % ( هذا الحِمال لا حِمال خيبر % هذا أبرُّ ربنا وأطهر )
 
وجعلوا يرتجزون وهم ينقلون اللّبن ، وجعل بعضهم يقول في رجزه : % ( لئن قعدنا والرسول يعملُ % لذاك منّا العمل المضلّل ) % 
 
 وجعل قبلته إلى بيت المقدس ، وجعل له ثلاثة أبواب باباً في مؤخره ، وباباً يقال له : باب الرحمة ، والباب الذي يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجعل عُمُده الجذوع وسقفه الجريد ، وقيل له : ألا تسقِّفه ؟ فقال : ‘ لا عريش كعريش موسى ‘ ، وبنى بيوتاً إلى جانبه بيوت أزواجه باللبن ، وسقفها بالجذوع والجريد ، فلما فرغ من البناء بنى بعائشة في البيت الذي بناه لها شرقي المسجد ، وجعل لسودة بيتاً آخر . | ثم آخى بين المهاجرين والأنصار ، وكانوا تسعين رجلاً ، نصفهم من المهاجرين ، ونصفهم من الأنصار على المواساة ، ويتوارثون بعد الموت إلى وقعة بدر ، فلما نزلت ^ ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ) ^ الآية ‘ سورة الأحزاب : 6 ‘ رد التوارث إلى الرحم
 
وقيل : إنه آخى بين المهاجرين ثانية ، واتخذ علياً أخاً ، والأول أثبت . ولو كان ذلك ، لكان أحق الناس بأخوَّته الصديق الذي قال فيه : ‘ لو كنت متّخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن أخي وصاحبي ‘ . وهذه الأخوة وإن كانت عامة كما قال : ‘ وددت أنا قد رأينا إخواننا ‘ قالوا : ألسنا إخوانك ؟ قال : ‘ أنتم أصحابي ، وإخواني قوم يأتون من بعدي ، يؤمنون بي ولم يروني ‘ فللصِّدِّيق من هذه الأخوة أعلى مراتبها كما له من الصحبة أعلى مراتبها ، ووادعَ من بالمدينة من اليهود ، وكتب بينه وبينهم كتاباً ، وبادر حَبرهم عبد الله بن سلام ، فدخل في الإسلام ، وأبى عامّتهم إلا الكفر ، وكانوا ثلاث قبائل : قينقاع ، والنضير ، وقريظة ، وحاربه الثلاثة ، فمنَّ على قينقاع ، وأجلى النضير ، وقتل قريظة وسبى ذريتهم ، ونزلت سورة الحشر في النضير ، والأحزاب في قريظة . 
 
 وكان يصلي إلى بيت المقدس ، وقال لجبريل : ‘ وددت أن الله صرف وجهي عن قبلة اليهود ‘ فقال : ‘ إنما أنا عبد فادع ربك واسأله ‘ ، فجعل يقلب وجهه في السماء يرجو ذلك ، فأنزل الله عليه : ! 2 < قد نرى تقلب وجهك في السماء > 2 ! الآية ‘ سورة البقرة : 144 ‘ وذلك بعد ستة عشر شهراً من مَقْدمه المدينة قبل بدر بشهرين ، وكان في ذلك حكم عظيمة ، ومحنة للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين ، فأما المسلمون ، فقالوا : ! 2 < آمنا به كل من عند ربنا > 2 ! . وهم الذين هدى الله ، ولم تكن كبيرة عليهم ، وأما المشركون ، فقالوا : كما رجع إلى قبلتنا يُوشك أن يرجع إلى ديننا وما رجع إليها إلا أنها الحق . وأما اليهود ، فقالوا : خالف قبلة الأنبياء قبله . وأما المنافقون ، فقالوا : ما يدري أين يتوجه إن كانت الأولى حقاً فقد تركها ، وإن كانت الثانية هي الحق ، فقد كان على باطل . وكثرت أقاويل السفهاء من الناس ، وكانت كما قال الله تعالى : ^ ( وإنها لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) ^ ‘ سورة البقرة : 143 ‘
 
 وكانت محنة من الله ليرى من يتّبع الرسول ممن ينقلبُ على عقبيه ، ولما كان شأن القبلة عظيماً وطّأَ سبحانه قبلها أمر النسخ وقدرته عليه ، وأنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله ، ثم عقّبه بالتوبيخ لمن تعنّت على رسوله ، ولم يَنْقَد له .
 
ثم ذكر اختلاف اليهود والنصارى وشهادة بعضهم على بعض بأنهم ليسوا على شيء ، وحذر عباده من موافقتهم واتباع أهوائهم ، ثم ذكر كفرهم به وقولهم : أن له ولد سبحانه وتعالى . | ثم أخبر أنه له المشرق والمغرب ، فأينما ولى عباده وجوههم فثمَّ وجههُ وهو الواسع العليم ، فلعظمته وَسعته وإحاطته أينما توجه العبد ، فثم وجه الله ، ثم أخبر أنه لا يُسأَل رسولُه عن أصحاب الجحيم الذين لا يتابعونه .
 
 ثم أخبره أن أهل الكتاب لن يرضوا عنه حتى يتبع ملّتهم ، ثم ذكَّر أهل الكتاب نعمته عليهم ، وخوفهم بأسه ، ثم ذكر خليله باني بيته ، وأثنى عليه ، وأخبر أنه جعله إماماً للناس ، ثم ذكر بيته الحرام وبناء خليله له ، وفي ضمن هذا أن بانيه كما هو إمام للناس ، فكذلك البيت الذي بناه إمام لهم . | ثم أخبر أنه لا يرغب عن ملّة هذا الإمام إلا أسفه الناس ، ثم أمر عباده أن يأتمُّوا به ، ويؤمنوا بما أنزل إليه وإلى النبيين ، ثم رد على من قال : إن إبراهيم وأهله كانوا هوداً أو نصارى ، وجعل هذا كله توطئة بين يدي تحويل القبلة ، وأكد سبحانه الأمر مرة بعد مرة ، وأمر به حيث كان رسوله ومن حيث خرج .
 
وأخبر سبحانه أن الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم الذي هداهم لهذه القبلة ، وأنها لهم وأنهم أهلها ، لأنها أفضل القبل ، وهم أفضل الأمم ، كما اختار لهم أفضل الرسل ، وأفضل الكتب وأخرجهم من خير القرون وخصهم بأفضل الشرائع ، ومنحهم خير الأخلاق ، وأسكنهم خير الأرض ، وجعل منازلهم في الجنة خير المنازل ، وموقفهم في القيامة خير المواقف ، فهم على تل عال والناس تحتهم ، فسبحان من يختص برحمته من يشاء ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ، وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك ، لئلا يكون للناس عليهم حجة ، ولكن الظالمين يحتجون عليهم بتلك الحجج التي ذكرت ، ولا تعارض الرسل إلا بها وأمثالها . وكل من قدّم على أقوال الرسول سواها ، فحجته من جنس حجج هؤلاء ، وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك ليتم نعمته عليهم ، وليهديهم ، ثم ذكر نعمته عليهم بإرسال رسوله ، وإنزال كتابه ، ليزكيهم به ، ويعلّمهم الكتاب والحكمة ، ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون 
 
 ثم أمرهم بذكره وشكره إذ بهما يستوجبون تمام النعمة والمزيد ، ويستجلبون ذكره ومحبته لهم ، ثم أمرهم بما لا يتم ذلك لهم إلا بالاستعانة به ، وهو الصبر والصلاة ، وأخبر أنه مع الصابرين ، وأتم نعمته عليهم مع القبلة بأن شرع لهم الأذان في اليوم والليلة خمس مرات ، وزادهم في الظهر والعصر والعشاء ركعتين أخريين بعد أن كانت ثنائية ، وكل هذا بعد مقدمه المدينة .
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *