مختصر زاد المعاد لابن القيم
( فصل : في هَديِه صلى الله عليه وسلم في الاعتِكافْ )
لما كان صلاح القلب ، واستقامته في طريق سيره إلى الله تعالى متوقفاً على جمعيته على الله ، ولَمِّ شعثه بإقباله بالكلية على الله ، فإن شعث القلب لا يلمُّه إلا الإقبال على الله ، وكان فضول الشراب والطعام ، وفضول مخالطة الأنام ، وفضول المنام ، وفضول الكلام مما يزيده شعثاً ، ويشتّته في كل وادٍ ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى ، ويضعفه ، أو يعوقه ويوقفه ، اقتضت حكمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب ، ويستفرغُ من القلب أخلاط الشهوات المعوّقة له عن سيره إلى الله ، وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه ، ولا يضرُّه ،
وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله ، والانقطاع عن الخلق ، والاشتغال به وحده ، فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق ، فيعده بذلك لأنْسِه به يوم الوحشة في القبر .
ولما كان هذا المقصود إنما يتم مع الصوم ، شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم وهو العشر الأخير من رمضان ، ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلا مع الصوم ، ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع الصوم .
وأما الكلام ، فإنه شرع للأمة حبسَ اللسان عن كل ما لا ينفع في الآخرة ،وأما فضول المنام ، فإنه شرع لهم من قيام الليل ما هو من أفضل السهر وأحمده عاقبة ، وهو السهر المتوسط الذي ينفع القلب والبدن ، ولا يعوق العبد عن مصلحته ، ومدار رياضة أرباب الرياضات والسلوك على هذه الأركان الأربعة ، وأسعدهم بها من سلك فيها المنهاج المحمدي ، فلم ينحرف انحراف الغالين ، ولا قصَّر تقصير المفرطين ، وقد ذكرنا هديَه في صيامه وقيامه وكلامه ، فلنذكر هديه في اعتكافه .
كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ، وتركه مرة فقضاه في شوال ، واعتكف مرة في العشر الأول ، ثم الأوسط ، ثم العشر الأواخر يلتمس ليلة القدر ، ثم تبين له أنها في العشر الأواخر ، فداوم على الاعتكاف حتى لحق بربه عز وجل ، وكان يأمر بخِباء ، فيضرب له في المسجد يخلو فيه لربه عز وجل ،
وكان إذا أراد الاعتكاف صلى الفجر ، ثم دخله ، فأمر به مرة ، فضُرب له ، فأمر أزواجه بأخبيتهن فضربت ، فلما صلى الفجر ، نظر فرأى تلك الأخبية ، فأمر بخبائه فقُوض ، وترك الاعتكاف في رمضان حتى اعتكف العشر الأول من شوال ، وكان يعتكف كل سنة عشرة أيام ، فلما كان العام الذي قُبض فيه ، اعتكف عشرين يوماً ،
وكان يعارضه جبريل بالقرآن كل سنة مرة ، فلما كان ذلك العام عارضه به مرتين ، وكان يُعرض عليه القرآن أيضاً في كل سنة مرة ، فعرض عليه تلك السنة مرتين ، وكان إذا اعتكف دخل قبته وحده ، وكان لا يدخل بيته إلا لحاجة الإنسان ، ويخرج رأسه إلى بيت عائشة فترجله وهي حائض ،
وكان بعض أزواجه تزوره وهو معتكف ، فإذا قامت تذهب ، قام معها يقلبها ، وكان ذلك ليلاً ، ولم يكن باشر امرأة من نسائه وهو معتكف لا بقبلة ولا غيرها ، وكان إذا اعتكف طرح له فراشه وسريره في معتكفه .
وكان إذا خرج لحاجته ، مر بالمريض وهو في طريقه ، فلا يعرجُ عليه ولا يسأل عنه ، واعتكف مرة في قبَّةٍ تركيّةٍ ، وجعل على سدتها حصيراً ، كل هذا تحصيل لمقصود الاعتكاف عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عشرة ، ومجلبة للزائرين ، فهذا لون ، والاعتكاف المحمدي لون .