مختصر زاد المعاد لابن القيم
( فصل : في هَديِه صلى الله عليه وسلم في الاسْتئْذان )
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ‘ الاستئذان ثلاثاً ، فإن أذن لك ، وإلا فارجع ‘ وصح عنه : ‘ إنما جعل الاستئذان من أجل البصر ‘ وصح عنه أنه أراد أن يفقأ عين الذي نظر إليه من حجرته ، وقال : ‘ إنما جُعل الاستئذان من أجل البصر ‘
وصح عنه التسليم قبل الاستئذان فعلا وتعليماً ، واستأذن عليه رجل فقال : أألجُ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل : ‘ اخرج إلى هذا فعلّمه الاستئذان ، فقل له : قل السلام عليكم أأدخل ‘ ؟ فسمعه الرجل ، فقال ذلك ، فأذن له ، فدخل .
وفيه رد على من قال : يقدم الاستئذان ، وعلى من قال : إن وقعت عينه على صاحب المنزل قبل دخوله بدأ بالسلام وإلا بالاستئذان .
ومن هديه أنه إذا استأذن ثلاثاً ولم يؤذن له ، انصرف . وهو رد على من يقول : إن ظن أنهم لم يسمعوه زاد على الثلاث ، وعلى من قال : يعيده بلفظ آخر .
ومن هديه أن المستأذن إذا قيل له : من أنت ؟ قال : فلان ابن فلان ، أو يذكر كنيته ، ولا يقول : أنا . وروى أبو داود عنه : ‘ أن رسول الرجل إلى الرجل إذنه ‘ . وذكره البخاري تعليقاً ، ثم ذكر ما يدل على اعتبارالإذن بعد الدعوة ، وهو حديث دعاء أهل الصفة ، وقوله : فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا .
وقالت طائفة : إن الحديثين على حالين ، فإن جاء المدعو على الفور ، لم يحتج للاستئذان ، وإن تراخى ، احتاج إليه .
وقال آخرون : إن كان عند الداعي من قد أذن له قبل مجيء المدعو لم يحتج للاستئذان وإلا استأذن .
وكان إذا دخل إلى مكان يحب الانفراد فيه ، أمر من يمسك الباب ، فلا يدخل عليه أحد إلا بإذن .
وأما الاستئذان الذي أمر الله به المماليك ، ومن لم يبلغ الحلم في العورات الثلاث قبل الفجر ووقت الظهيرة وعند النوم ، فكان ابن عباس يأمر به ، ويقول : ترك الناس العمل به .
وقالت طائفة : الآية منسوخة ، ولم تأت بحجة ، وقالت طائفة : أمر ندب ، وليس معها ما يدل على صرف الأمر عن ظاهره ، وقالت طائفة : المأمور به النساء خاصة ، وهذا ظاهر البطلان ، وقالت طائفة : عكس هذا ، نظراً إلى لفظ ‘ الذين ‘ ولكن سياق الآية يأباه فتأمله .
وقالت طائفة : كان الأمر لعلة وزال بزوالها وهي الحاجة ، فروى أبو داود في ‘ سننه ‘ أن نفراً قالوا لابن عباس : كيف ترى هذه الآية ولا يعمل بها أحد ؟
فقال : إن الله حليم رؤوف بالمؤمنين يحب السِّتر ، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال فربما دخل الخادم أو الولد ، أو يتيمة الرجل ، والرجل على أهله ، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات ، فجاءهم الله تعالى بالسُّتور والخير فلم أر أحداً يعمل بذلك بعد .
وقد أنكر بعضهم ثبوته ، وطعن في عكرمة ، ولم يصنع شيئاً ، وطعن في عمرو بن أبي عمرو ، وقد احتج به صاحبا الصحيح ، فإنكاره تعنت لا وجه له .
وقالت طائفة : الآية محكمة لا دافع لها .
والصحيح أن الحكم معلل بعلة قد أشارت إليها الآية ، فإن كان هناك ما يقوم مقام الاستئذان من فتح باب فتحه دليل على الدخول ، أو رفع ستر ، أو تردد الداخل ونحوه ، أغنى عن الاستئذان ، وإن لم يكن ما يقوم مقامه ، فلا بد منه ، فإذا وجدت العلة ، وجد الحكم ، وإذا انتفت انتفى .
( فصل ) | ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ‘ إن الله يحب العطاس ، ويكره التثاؤب ، فإذا عطس أحدكم وحمد الله كان حقاً ، على كل مسلم سمعه أن يقول له : يرحمك الله ،
وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان ، فإذا تثاءب أحدكم ، فليرده ما استطاع ، فإن أحدكم إذا تثاءَب ضحك الشيطان ‘ ذكره البخاري .
وفي ‘ صحيحه ‘ أيضاً : ‘ إذا عطس أحدكم ، فليقل : الحمد لله ، وليقل له أخوه أو صاحبه : يرحمك الله . فإذا قال له : يرحمك الله . فليقل : يهديكم الله ويُصلح بالكم ‘ .
وفي ‘ صحيح مسلم ‘ : ‘ إذا عطس أحدكم ، فحمد الله ، فشمتوه ، وإن لم يحمد الله ، فلا تشمّتوه ‘ . وفي ‘ صحيحه ‘ : ‘ حق المسلم على المسلم ست : إذا لقيته ، فسلّم عليه ، وإذا دعاك فأجبه ، وإذا استنصحك ، فانصح له ، وإذا عطس وحمد الله فشمّته ، وإذا مات فاتبعه ، وإذا مرض فعده ‘ .
وللترمذي عن ابن عمر : علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العطاس أن نقول : ‘ الحمد لله على كل حال ‘ .
وذكر مالك عن نافع عن ابن عمر : إذا عطس أحدكم ، فقيل له : يرحمك الله . فليقل : يرحمنا الله وإياكم ، ويغفر لنا ولكم .
وظاهر الحديث المبدوء به أن التشميت فرض عين اختاره ابن أبي زيد ، ولا دافع له .
ولما كان العاطس قد حصل له بالعطاس نعمة ومنفعة بخروج الأبخرة المحتقنة ، شرع له صلى الله عليه وسلم حمد الله على هذه النعمة مع بقاء أعضائه على هيئتها بعد هذه الزلزلة التي هي للبدن كزلزلة الأرض لها .
وكان إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه ، وخفض بها صوته ، ويذكر عنه : أن التثاؤب الرفيع ، والعطسة الشديدة من الشيطان .
وصح عنه أنه عطس عنده رجل ، فقال : ‘ يرحمك الله ‘ ثم عطس أخرى ، فقال له : ‘ الرجل مزكوم ‘ لفظ مسلم ، ولفظ الترمذي أنه قاله بعد العطسة الثالثة ، وقال : حديث صحيح .
ولأبي داود عن أبي هريرة موقوفاً : شمِّت أخاك ثلاثاً ، فما زاد فهو زكام .
فإن قيل : الذي فيه زكام أولى أن يُدعى له ! قيل : يدعى له كما يدعى للمريض ، وأما سنّة العطاس الذي يحبه الله وهو نعمة ، فإنه إلى تمام الثلاث ، وقوله : ‘ الرجل مزكوم ‘ تنبيه على الدعاء له بالعافية ، وفيه اعتذار من ترك تشميته .
وإذا حمد الله فسمعه بعضهم دون بعض ، فالصواب أن يشمته من لم يسمعه إذا تحقق أنه حمد الله ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ‘ فإن حمد الله ، فشمّتوه ‘ ، وإذا نسي الحمد ، فقال ابن العربي : لا يذكره .
وظاهر السنة يقوي هذا القول : والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكره ، وهو أولى بفعل السُّنة وتعليمها .
وصح عنه أن اليهود كانوا يتعاطسون عنده يرجون أن يقول لهم : يرحمكم الله . فيقول : ‘ يهديكم الله ويصلح بالكم ‘ .