مختصر زاد المعاد لابن القيم
( فصل : في هَديِه صلى الله عليه وسلم في الجهاد والغزوات )
لما كان الجهاد ذِروة سنام الإسلام ، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة ، كما لهم الرفعة في الدنيا ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا منه ، فاستولى على أنواعه كلها ، فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان ، والدعوة والبيان ، والسيف والسنان ، فكانت ساعاته موقوفة على الجهاد ، ولهذا كان أعظم العالمين عند الله قدراً .
وأمره تعالى بالجهاد من حين بعثه ، فقال : فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ‘ سورة الفرقان : 52 ‘
فهذه سورة مكية أمره فيها بالجهاد بالبيان ، وكذلك جهاد المنافقين إنما هو بالحجة وهو أصعب من جهاد الكفار ، وهو جهاد الخواص ، وأفراد العالم والمعاونون عليه ، وإن كانوا هم الأقلين عدداً ، فهم الأعظمون عند الله قدراً .
ولما كان من أفضل الجهاد قول الحق مع شدة المعارض مثل أن يتكلم به عند من يخاف سطوته ، كان للرسل صلوات الله وسلامه عليهم من ذلك الحظ الأوفر ، وكان له صلى الله عليه وسلم من ذلك أكمله وأتمه ، ولما كان جهاد أعداء الله فرعاً على جهاد النفس ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ‘ المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله ‘ كان جهادها مقدماً .
فهذان عدوان قد امتحن العبد بجهادهما ، وبينهما عدو ثالث لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده وهو واقف بينهما يثبط عن جهادهما وهو الشيطان ، قال الله تعالى : ! 2 < إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا > 2 ! الآية ‘ فاطر : 6 ‘ .
والأمر بذلك تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ، فهذه ثلاثة أعداء أمر العبد بمحاربتها ، وسُلطت عليه امتحاناً من الله ، وأعطي العبد مدداً وقوة ، وبلي أحد الفريقين بالآخر ، وجعل بعضهم لبعض فتنة ، ليبلو أخبارهم ،
فأعطى عباده الأسماع والأبصار والعقول والقوى ، وأنزل عليهم كتبه ، وأرسل إليهم رسله ، وأمدهم بملائكته ، وأمرهم بما هو من أعظم العون لهم على حرب عدوهم ،
وأخبرهم أنهم إن امتثلوه فلن يزالوا منصورين وأنه إن سلط عليهم ، فلتركهم بعض ما أمروا به ، ثم لم يؤيسهم بل أمرهم أن يداووا جراحهم ، ويعودوا إلى مناهضة عدوهم بصبرهم ،
وأخبرهم أنه مع المتقين منهم ، ومع المحسنين ، ومع الصابرين ، ومع المؤمنين ، وأنه يدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدافعون عن أنفسهم ، بل بدفاعه عنهم انتصروا ، ولولا ذلك لاجتاحهم عدوهم .
وهذه المدافعة بحسب إيمانهم ، فإن قوي إيمانهم قويت ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه .
وأمرهم أن يجاهدوا فيه حق جهاده ، كما أمرهم أن يتقوه حق تقاته ، وكما أن حق تقاته أن يُطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ،
فحق جهاده أن يجاهد نفسه ليسلم قلبه ولسانه وجوارحه لله وبالله ، لا لنفسه ولا بنفسه ، ويُجاهد شيطانه بتكذيب وعده ومعصية أمره ، فإنه يعد بالأماني ، ويمني الغرور ، ويأمر بالفحشاء ، وينهى عن الهدى وأخلاق الإيمان كلها ، فينشأ له من هذين الجهادين قوة وعدة يجاهد بهما أعداء الله بقلبه ولسانه ويده وماله ، لتكون كلمة الله هي العليا .
واختلفت عبارات السلف في حق الجهاد ، فقال ابن عباس : هو استفراغ الطاقة فيه ، وأن لا يخاف في الله لومة لائم .
وقال ابن المبارك : مجاهدة النفس والهوى .
ولم يصب من قال : إن الآيتين منسوختان . لظنه تضمنهما ما لا يطاق ، وحق تقاته وحق جهاده : هو ما يطيقه كل عبد في نفسه ، وذلك يختلف باختلاف أحوال المكلفين .
وتأمل كيف عقب الأمر بذلك بقوله : هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ‘ سورة الحج : 78 ‘ والحرج : الضيّق .
وقال صلى الله عليه وسلم : ‘ بُعثتُ بالحنيفية السمحة ‘ فهي في التوحيد ، سمحة في العمل ،
وقد وسع الله سبحانه على عباده غاية التوسعة في دينه ورزقه وعفوه ومغفرته ، فبسط عليهم التوبة ما دامت الروح في الجسد ، وجعل لكم سيئة كفارة ، وجعل لكم ما حرم عوضاً من الحلال ، وجعل لكل عسر يمتحنهم به يسراً قبله ويسراً بعده ، فكيف يكلفهم ما لا يسعهم ، فضلا عما لا يطيقونه .
مراتب الجهاد
( فصل ) | إذا عرف هذا ، فالجهاد على أربع مراتب : جهاد النفس ، وهو أيضاً أربع مراتب .
أحدها : أن يجاهدها على تعلم الهدى .
الثانية : على العمل به بعد علمه .
الثالثة : على الدعوة إليه ، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله .
الرابعة : على الصبر على مشاق الدعوة ، ويتحمل ذلك كله لله ، فإذا استكمل هذه الأربع صار من الربانيين ، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يكون ربانياً حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلّمه .
المرتبة الثانية : جهاد الشيطان ، وهو مرتبتان :
أحدهما : جهاده على دفع ما يلقي من الشبهات .
الثانية : على دفع ما يلقي من الشهوات ، فالأولى بعدة اليقين ، والثانية بعدة الصبر ، قال تعالى : ! 2 < وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون > 2 ! ‘ السجدة : 24 ‘ .
المرتبة الثالثة : جهاد الكفار والمنافقين ، وهو أربع مراتب ، بالقلب واللسان والمال والنفس ، وجهاد الكفار أخص باليد ، وجهاد المنافقين أخص باللسان .
المرتبة الرابعة : جهاد أرباب الظلم والمنكرات والبدع ، وهو ثلاث مراتب . الأولى باليد إذا قدر ، فإن عجز انتقل إلى اللسان ، فإن عجز جاهد بقلبه .
فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد ، و ‘ من مات ولم يغز ، ولم يحدّث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ‘ ولا يتم الجهاد إلا بالهجرة ، ولا الهجرة والجهاد إلا بالإيمان ، والراجون لرحمة الله هم الذين قاموا بهذه الثلاثة ، قال الله تعالى : إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم ‘ البقرة 218 ‘ .
وكما أن الإيمان فرض على كل أحد ، ففرض عليه هجرتان في كل وقت : هجرة إلى الله عز وجل بالإخلاص ، وهجرة إلى رسوله بالمتابعة ، وفرض عليه جهاد نفسه وشيطانه لا ينوب فيه أحد عن أحد .
وأما جهاد الكفار والمنافقين ، فقد يكتفي فيه ببعض الأمة .
أكمل الخلق
1 ( فصل ) | وأكمل الخلق عند الله عز وجل من كمل مراتب الجهاد كلها ، ولهذا كان أكمل الخلق عند الله وأكرمهم على الله خاتم أنبيائه محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه كمّل مراتبه ، وجاهد في الله حق جهاده ، وشرع فيه من حين بعثه الله إلى أن توفاه ، فإنه لما أنزل عليه : يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر ‘ سورة المدثر : 1 – 4 ‘ . شمر عن ساق الدعوة ، وأقام أتم قيام ، ودعا إلى الله ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً ،
ولمّا أنزل عليه فاصدع بما تؤمر ‘ سورة الحجر : 94 ‘ صدع بأمر الله ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، فدعا إلى الله الكبير والصغير ، والحر والعبد ، والذكر والأنثى ، والجن والإنس .
ولما صدع بأمر الله ، وصرح لقومه بالدعوة ، وبادأهم بسب آلهتهم ، وعيب دينهم ، اشتد أذاهم له ولمن استجاب له ، وهذه سنة الله عز وجل في خلقه ، كما قال تعالى : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ‘ سورة فصلت : 43 ‘
وقال تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن .. الآية . ‘ سورة الأنعام : 112 ‘
وقال تعالى : ! 2 < كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون > 2 ! ‘ سورة الذاريات : 52 ، 53 ‘
فعزى الله سبحانه نبيه بذلك وأن له أسوة بمن تقدمه ، وعزّى أتباعه بقوله : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم الآية ‘ سورة البقرة : 214 ‘
وقوله : ^ ( آلم . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) ^ إلى قوله : ^ ( أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ) ^ ‘ العنكبوت : 1 – 10 ‘ .
فليتأمل العبد سياق هذه الآيات ، وما تضمنته من العبر وكنوز الحِكَم ، فإن الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين : إما أن يقول أحدهم : آمنا ، وإما أن لا ، بل يستمر على السيئات ، فمن قال : آمنا ، فتنه ربه ، والفتنة : الابتلاء والاختبار ، ليتبين الصادق من الكاذب ، ومن لم يقل : آمنا ، فلا يحسب أنه يفوت الله ويسبقه ، فمن آمن بالرسل ، عاداه أعداؤهم ، وآذوه ، فابتلي بما يؤلمه ، ومن لم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة .
فلا بد من حصول الألم لكل نفس ، لكن المؤمن يحصل له الألم ابتداء ، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة ، والمعرض تحصل له اللذة ابتداء ، ثم يصير إلى الألم الدائم ، وسئل الشافعي رحمه الله : أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يُبتلى ؟ فقال : لا يمكن حتى يُبتلى .
والله عز وجل ابتلى أولي العزم من رسله ، فلما صبروا مكنهم ، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم ألبتة فأعقلهم من باع ألماً مستمراً بألم منقطع ، وأسفههم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم المستمر العظيم .
فإن قيل : كيف يختار العاقل هذا ؟ قيل : الحامل له على هذا النقد والنسيئة ، والنفس موكلة بالعاجل ^ ( كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ) ^ ‘ سورة القيامة : 20 ، 21 ‘ . ^ ( إن هؤلاء يحبون العاجلة ) ^ الآية . ‘ الدهر : 27 ‘ .
وهذا يحصل لكل أحد ، فإن الإنسان لا بد له أن يعيش مع الناس ، ولهم إرادات يطلبون منه موافقتهم عليها ، فإن لم يفعل آذوه ،وعذبوه ، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب ، تارة منهم ، وتارة من غيرهم ، كمن عنده دين وتقى حل بين قوم ظلمة لا يتمكنون من ظلمهم إلا بموافقته لهم ، أو سكوته عنهم ، فإن فعل سلم من شرهم في الابتداء ، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم ، وإن سلم منهم ، فلا بد أن يهان على يد غيرهم .
فالحزم كل الحزم الأخذ بما قالته عائشة رضي الله عنها لمعاوية : ‘ من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ، ومن أرضى الناس بسخط الله ، لم يغنوا عنه من الله شيئاً ‘ .
ومن تأمل أحوال العالَم ، رأى هذا كثيراً ، فيمن يعين الرؤساء وأهل البدع هرباً من عقوبتهم ، فمن وقاه الله شر نفسه ، امتنع من الموافقة على المحرم ، وصبر على عداوتهم ، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة ، كما كانت لمن ابتلي من العلماء وغيرهم . |
ولما كان الألم لا مخلص منه ألبتة ، عزّى الله سبحانه من اختار الألم المنقطع بقوله : من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ‘ سورة العنكبوت : 5 ‘
فضرب لهذا الألم المنقطع أجلاً وهو يوم لقائه ، فيلتذ العبد أعظم لذة بما تحمل من الألم لأجله ، وأكد هذا العزاء برجاء اللقاء ، ليحمل العبد اشتياقه إلى ربه على تحمل الألم العاجل ، بل ربما غيّبه الشوق عن شهود والإحساس به ،
ولهذا سأل صلى الله عليه وسلم ربه الشوق إلى لقائه ، وشوقه من أعظم النعم ، ولكن لهذه النعمة أقوال وأعمال هما السبب الذي تنال به ، والله سبحانه سميع لتلك الأقوال ، عليم بتلك الأعمال ، عليم بمن يصلح لهذه النعمة ، كما قال تعالى : ^ ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ) ^ الآية . ‘ سورة الأنعام : 53 ‘
فإذا فاتت العبد نعمة ، ليقرأ على نفسه : ^ ( أليس الله بأعلم بالشاكرين ) ^ ‘ سورة الأنعام : 53 ‘
ثم عزّاهم تعالى بعزاء آخر ، وهو أن جهادهم فيه إنما هو لأنفسهم ، وأنه غني عن العالمين ، فمصلحة هذا الجهاد ترجع إليهم لا له سبحانه ، ثم أخبر أنه يدخلهم بجهادهم وإيمانهم في زمرة الصالحين ،
ثم أخبر عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة ، وأنه يجعل فتنة الناس ، أي أذاهم له ونيلهم إياه بالألم الذي لا بد منه ، كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان ، فإذا جاء نصر الله لجنده قال : إني معكم .
والله أعلم بما انطوى عليه صدره من النفاق .
والمقصود أن الحكمة اقتضت أنه سبحانه لا بد أن يمتحن النفوس ، فيظهر طيّبها من خبيثها ، إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة ،
وقد حصل لها بذلك من الخبث ما يحتاج خروجه إلى التصفية ، فإن خرج في هذه الدار ، وإلا ففي كير جهنم ، فإذا نقي العبد أذن له في دخول الجنة .