تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » فصل : في هَديِه صلى الله عليه وسلم في الذِّكْر

فصل : في هَديِه صلى الله عليه وسلم في الذِّكْر

  • بواسطة

مختصر زاد المعاد لابن القيم


 

 

( فصل : في هَديِه صلى الله عليه وسلم في الذِّكْر )

كان أكمل الناس ذكراً لله عز وجل ، بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه ،
 
 وكان أمره ونهيه وتشريعه ذكراً منه لله ، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته ، وأحكامه وأفعاله ، ووعده ووعيده ذكراً منه له ، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتسبيحه وتحميده ذكراً منه له ، 
 
وسكوته ذكراً منه له بقلبه ، فكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائماً وقاعداً ، وعلى جنبه ، وفي مشيه وركوبه وسيره ونزوله ، وظعْنِه وإقامته . 
 
وكان إذا استيقظ قال : ‘ الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ‘ . 
 
ثم ذكر أحاديث رويت فيما يقول إذا استيقظ ، وإذا استفتح الصلاة ، وإذا خرج من بيته ، وإذا دخل المسجد ، وما يقول في المساء والصباح ، وعند لبس الثوب ، ودخول المنزل ، ودخول الخلاء ، والوضوء والأذان ، ورؤية الهلال ، والأكل ، والعطاس .
 
 ( فصل : في هَديِه صلى الله عليه وسلم عند دخوله منزله ) 
 
 لم يكن يفجأ أهله بغتة يتخونهم ، ولكن كان يدخل على علم منهم ، وكان يسلم عليهم ، وإذا دخل بدأ بالسواك ، وسأل عنهم ، وربما قال : ‘ هل عندك من غداء ‘ ؟ وربما سكت حتى يحضر بين يديه ما تيسر . 
 
وثبت عنه أن رجلاً سلم عليه وهو يبول ، فلم يرد عليه ، وأخبر أن الله سبحانه وتعالى يمقت على الحديث على الغائط ، وكان لا يستقبل القبلة ، ولا يستدبرها بغائطٍ ، ولا بول ، ونهى عن ذلك .

 

( فصل ) | ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سن الأذان بترجيع وغير ترجيع ، وشرع الإقامة مثنى وفرادى ، 

ولكن كلمة الإقامة : ‘ قد قامت الصلاة ‘ لم يصح عنه إفرادها ألبتة ، وكذلك الذي صح عنه تكرار لفظ التكبير في أول الأذان ، ولم يصح عنه الاقتصار على مرتين ، وشرع لأمته عند الأذان خمسة أنواع . 
 
أحدها : أن يقولوا كما يقول المؤذن إلا في الحيعلة ، فأبدلها ب ‘ لا حول ولا قوة إلا بالله ‘ ولم يجيء عنه الجمع بينهما ، ولا الاقتصار على الحيعلة ، وهذا مقتضى الحكمة ، فإن كلمات الأذان ذكر ، وكلمة الحيعلة دعاء إلى الصلاة ، فسن للسامع أن يستعين على هذه الدعوة بكلمة الإعانة . 
 
الثاني : أن يقول : ‘ رضيت بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد رسولا ‘ وأخبر أن من قال ذلك : ‘ غفر له ذنبه ‘ . 
 
 الثالث : أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من إجابة المؤذن ، وأكملها ما علّمه أمته ، وإن تحذلق المتحذلقون .
 
الرابع : أن يقول بعد الصلاة عليه : ‘ اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمداً الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاماً محموداً ‘ .

 

الخامس : أن يدعو لنفسه بعد ذلك ، وفي ‘ السنن ‘ عنه : ‘ الدعاء لا يُردّ بين الأذان والإقامة ‘ قالوا : فما نقول يا رسول الله ؟ قال : ‘ سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة ‘ . حديث صحيح . |
 
وكان يكثر الدعاء في عشر ذي الحجة ، ويأمر فيه بالإكثار من التهليل والتكبير والتحميد ، ويذكر عنه أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق ، فيقول : ‘ الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد ‘ . 
 
وهذا وإن كان لا يصح إسناده ، فالعمل عليه ، ولفظه هكذا بشفع التكبير ، وأما كونه ثلاثاً ، فإنما روي عن جابر وابن عباس ، من فعلهما ثلاثاً نسقاً فقط ، وكلاهما حسن ، قال الشافعي : وإن زاد ، فقال : الله أكبر كبيراً ، والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلا . كان حسناً .

 

( فصل ) | وكان إذا وضع يده في الطعام قال : ‘ بسم الله ‘ ، وأمر بذلك ، ويقول إن نسي : ، بسم الله في أوله وآخره ‘ . حديث صحيح .

 والصحيح وجوب التسمية عند الأكل ، وتاركها شريكه الشيطان في طعامه وشرابه ، وأحاديث الأمر بها صحيحة صريحة ، ولا معارض لها ، ولا إجماع يُسوِّغ مخالفتها . 
 
وهل تزول مشاركة الشيطان بتسمية أحد الجماعة ؟ فنص الشافعي على إجزاء تسمية الواحد ، وقد يقال : لا ترتفع مشاركة الشيطان للآكل إلا بتسميته هو . 
 
وللترمذي وصححه عن عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل طعاماً في ستة من أصحابه ، فجاء أعرابي ، فأكله بلقمتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ‘ أما إنه لو سمى لكفاكم ‘ 
 
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه سموا ، ولهذا جاء في حديث حذيفة : حضرنا طعاماً ، فجاءت جارية ، كأنها تُدفع ، فذهبت لتضع يدها ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها ، ثم جاء أعرابي ، فأخذ بيده ، فقال : ‘ إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه ، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها ، فأخذت بيدها ، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به ، فأخذت بيده ، والذي نفسي بيده إن يده لفي يدي مع يديهما ‘ ، ثم ذكر اسم الله وأكل . 
 
ولكن قد يجاب بأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن وضع يده ، ولكن الجارية ابتدأت . 
 
وأما مسألة رد السلام ، وتشميت العاطس ففيهما نظر ، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم : ‘ إذا عطس أحدكم فحمد الله ، فحق على كل من سمعه أن يشمته ‘ وإن سلم الحكم فيهما ، فالفرق بينهما وبين مسألة الآكل ظاهر ، فإن الشيطان إنما يتوصل إلى مشاركته الأكل ، فإذا سمّى غيره ، قلت مشاركة الشيطان له ، وتبقى المشاركة بينه وبين من لم يُسمِّ . 
 
ويذكر عنه أنه كان إذا شرب تنفس في الإناء ثلاثة أنفاس يحمد الله في كل نفسٍ ، ويشكره في آخرهن . وما عاب طعاماً قط ، بل إن كرهه تركه وسكت ، وربما قال : ‘ أجدُني أعافه ‘ ، أي : لا أشتهيه . 
 
وكان يمدح الطعام أحياناً كقوله : ‘ نعم الإدام الخل ‘ ، لمن قال : ما عندنا إلا خل . تطييباً لقلب من قدمه ، لا تفضيلا له على سائر الأنواع ، وكان إذا قرب إليه الطعام وهو صائم قال : ‘ إني صائم ‘ ، وأمر من قدّم إليه الطعام وهو صائم أن يصلي ، أي : يدعو لمن قدمه ، وإن كان مفطراً أن يأكل منه . 
 
وإذا دعي إلى طعام ، وتبعه أحد ، أعلم به رب المنزل ، فقال : ‘ إن هذا تبعنا ، فإن شئت أن تأذن له ، وإن شئت رجع ‘ وكان يتحدث على طعامه ، كما قال لربيبه : ‘ سمِّ الله ، وكل مما يليك ‘ ، وربما كان يكرر على أضيافه عرض الأكل عليهم مراراً كما يفعله أهل الكرم ، كما في حديث أبي هريرة في اللّبن .
 
 وكان إذا أكل عند قوم ، لم يخرج حتى يدعو لهم .
 
 وذكر أبو داود عنه في قصة أبي الهيثم : فأكلوا فلما فرغوا قال : ‘ أثيبوا أخاكم ‘ قالوا : يا رسول الله ، وما إثابته ‘ ؟ قال : ‘ إن الرجل إذا دخل بيته ، فأكل طعامه ، وشرب شرابه فدعوا له ، فذلك إثابته ‘ .
 
وصح عنه أنه دخل منزله ليلة ، فالتمس طعاماً ، فلم يجده ، فقال : ‘ اللهم أطعم من أطعمني ، واسق من سقاني ‘ . 
 
وكان يدعو لمن يضيّف المساكين ، ويثني عليهم ، وكان لا يأنف من مؤاكله أحد صغيراً كان أو كبيراً ، حراً أو عبداً ، ويأمر بالأكل باليمنى ، وينهى عن الشمال ، ويقول : ‘ إن الشيطان يأكل بشماله ، ويشرب بشماله ‘ ومقتضاه تحريم الأكل بها ، وهو الصحيح ، وأمر من شكوا إليه : أنهم لا يشبعون . 
 
أن يجتمعوا على طعامهم ، ولا يتفرقوا ، وأن يذكروا اسم الله عليه ، وروي عنه أنه قال : ‘ أذيبوا طعامكم بذكر الله عز وجل والصلاة ، ولا تناموا عليه ، فتقسوَ قلوبكم ‘ وأحْر به أن يكون صحيحاً ، والتجربة تشهد به .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *