فصل : في هَديِه صلى الله عليه وسلم في الصّلاة

 

مختصر زاد المعاد لابن القيم


 

( فصل : في هَديِه صلى الله عليه وسلم في الصّلاة ) 

 كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال : الله أكبر ، ولم يقل شيئاً قبلها ، ولا تلفّظ بالنية ، ولا استحبّه أحد من التابعين ولا الأئمة الأربعة . |
 
وكان دأبه في إحرامه لفظة : الله أكبر . لا غيرها ، وكان يرفع يديه معها ممدودتي الأصابع مستقبلاً بهما القبلة إلى فروع أُذنيه ، ورويَ إلى منكبَيْه ، ثم يضع اليمنى على ظهر اليسرى [ فوق الرّسغ والساعد ، ولم يصح عنه موضع وضعهما ، لكن ذكر أبو داود عن علي : من السُّنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السُّرة ] .
 
 وكان يستفتحُ تارةً ب : ‘ اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ، اللهم نقِّني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدّنس ‘ . 
 
وتارةً يقول : ‘ وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ، وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين ‘ .

 

‘ اللهم أنت الملكُ لا إله إلا أنت ، أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي ، واعترفتُ بذنبي ، فاغفر لي ذنوبي جميعاً ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت ، لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك ، أنا بك وإليك ، تباركت وتعاليت ، أستغفرك وأتوب إليك ‘ . 
 
ولكن المحفوظ أنه في قيام الليل . | وتارة يقول : ‘ اللهم ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل . . ‘ إلى آخره . وقد تقدم . 
 
 وتارة يقول : ‘ اللهم لك الحمد ، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ‘ إلى آخره . ثم ذكر نوعين آخرين ، ثم قال : فكل هذه الأنواع قد صحت عنه .
 
 وروي عنه أنه كان يستفتح ب ‘ سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك وتعالى جَدُّك ، ولا إله غيرك ‘ . ذكره أهل ‘ السنن ‘ والذي قبله أثبت منه . ولكن صح عن عمر أنه يستفتح به في مقام النبي صلى الله عليه وسلم ويجهر به ، يعلمه الناس . 
 
 قال أحمد : أذهب إلى ما روي عن عمر ، ولو أن رجلاً استفتح ببعض ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم كان حسناً .

 

وكان يقول بعد ذلك : ‘ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ‘ ثم يقرأ الفاتحة . وكان يجهر ب ‘ بسم الله الرحمن الرحيم ‘ تارة ويخفيها أكثر .
 
 وكانت قراءته مداً ، يقف عند كل آية ويمد بها صوته ، فإذا فرغ من قراءة الفاتحة قال : ‘ آمين ‘ فإن كان يجهر بالقراءة رفع بها صوته ، وقالها مَنْ خلفه . | وكان له سكتتان : سكتة بين التكبيرة والقراءة ، واختلف في الثانية ، فروي بعد الفاتحة ، وروي قبل الركوع . 
 
وقيل : بل سكتتان غير الأولى ، والظاهر أنهما اثنتان فقط ، وأمّا الثالثة فلطيفة ، لأجل تراد النفس ، فمن لم يذكرها ، فلقصرها . 
 
 فإذا فرغ من قراءة الفاتحة أخذ في سورة غيرها ، وكان يطيلها تارة ويخففها لعارض من سفر أو غيره ، ويتوسط فيها غالباً . 
 
 وكان يقرأ في الفجر بنحو ستين آية إلى مئة ، وصلاها بسورة ( ق ) ، وصلاها بسورة ( الروم ) ، وصلاها ب ( إذا الشمس كورت ) وصلاها بسورة ( إذا زلزلت الأرض ) في الركعتين كلتيهما ، وصلاها ( بالمعوذتين ) ، وكان في السفر ، وصلاها : فاستفتح سورة ( المؤمنون ) حتى إذا بلغ ذكر موسى وهارون في الركعة الأولى ، أخذته سعلة فركع .
 
وكان يصليها يوم الجمعة ب ( ألم السجدة ) و ( هل أتى على الإنسان ) لما اشتملتا عليه من المبدأ والمعاد ، وخلق آدم ، ودخول الجنة والنار ، وذكر ما كان وما يكون في يوم الجمعة ، كما كان يقرأ في المجامع العظام ، كالأعياد والجمعة بسورة ( ق ) ، و ( اقتربت ) و ( سبّح ) و ( الغاشية ) .

 

( فصل ) | وأما الظهر ، فكان يطيل قراءتهما أحياناً ، 

حتى قال أبو سعيد : كانت صلاة الظهر تقام ، فيذهب الذاهب إلى البقيع ، فيقضي حاجته ، ثم يأتي أهله فيتوضأ ، ويدرك النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى ما يطيلها . رواه مسلم ، وكان يقرأ فيها تارة بقدر ( آلم تنزيل ) السجدة ، وتارة ب ( سبح اسم ربك الأعلى ) ، ( والليل إذا يغشى ) ( والسماء ذات البروج ) . 
 
وأما العصر ، فعلى النصف من قراءة الظهر إذا طالت ، وبقدرها إذا قصرت . | وأما المغرب ، فكان هديه فيها خلاف عمل الناس اليوم ، فإنه صلاها مرة ب ( الأعراف ) في الركعتين ، ومرة ب ( الطور ) ، ومرة ب ( المرسلات ) . |
 
وأما المداومة على قراءة قصار المفصل فيها ، فهو من فعل مروان ، ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابت .
 
قال ابن عبد البر : روي عنه أنه قرأ في المغرب ب ( آلمص ) وب ( الصافات ) ، وب ( الدخان ) و ( سبح اسم ربك الأعلى ) ، وب ( التين ) وب ( المعوذتين ) و ب ( المرسلات ) وهو مشهور وأنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل ؛ وكلها آثار صحاح مشهورة .

 

وأما عشاء الآخرة ، فقرأ صلى الله عليه وسلم فيها ب ( التين ) ووقت لمعاذ فيها : ب ( الشمس وضحاها ) وب ( سبح اسم ربك الأعلى ) ، ( والليل إذا يغشى ) ونحوها ولهذا أنكر عليه قراءته فيها ب ( البقرة ) وقال له : ‘ أفتّان أنت يا معاذ ‘ ؟ فتعلّق النقارون بهذه الكلمة ، ولم يلتفتوا إلى ما قبلها ولا ما بعدها . 
 
 وأما الجمعة ، فكان يقرأ فيها بسورتي ( الجمعة ) و ( المنافقون ) وسورتي : ( سبح ) و ( الغاشية ) . وأما الاقتصار على قراءة أواخر السورتين فلم يفعله قط .
 
 وأما الأعياد ، فتارة يقرأ ب ( ق ) و ( اقتربت ) كاملتين ، وتارة ب ( سبح ) و ( الغاشية ) وهذا الهدي الذي استمر عليه إلى أن لقي الله عز وجل . | ولهذا أخذ به الخلفاء ، فقرأ أبو بكر في الفجر سورة ( البقرة ) حتى سلم قريباً من طلوع الشمس . | وكان بعده عمر يقرأ فيها ب ( يوسف ) و ( النحل ) و ( هود ) و ( بني إسرائيل ) ونحوها . 
 
وأما قوله : ‘ أيّكم أمّ بالناس فليخفف ‘ ، فالتخفيف أمر نسبي يُرجع فيه إلى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ، لا إلى شهوات المأمومين . | وهديه الذي كان يواظب عليه ، هو الحاكم في كلّ ما تنازع فيه المتنازعون .

 

وكان لا يعين سورة بعينها لا يقرأ إلا بها ، إلا في الجمعة والعيدين . | وكان من هديه قراءة السورة ، وربما قرأها في الركعتين . وأما قراءة أواخر السور وأوساطها ، فلم يحفظ عنه . | وأما قراءة السورتين في الركعة ، فكان يفعله في النافلة . 
 
وأما قراءة سورة واحدة في ركعتين معاً ، فقلما كان يفعله . | وكان يطيل الركعة الأولى على الثانية من كل صلاة ، وربما كان يطيلها ، حتى لا يسمع وقع قدم . 
 
فإذا فرغ من القراءة ، رفع يديه وكبر راكعاً ، ووضع كفيه على ركبتيه كالقابض عليهما ، ووتّر يديه ، فنحاهما عن جنبيه ، وبسط ظهره ومده ، واعتدل فلم ينصب رأسه ولم يخفضه ، بل حيال ظهره . 
 
وكان يقول : ‘ سبحان ربي العظيم ‘ . وتارة يقول مع ذلك ، أو مقتصراً عليه : ‘ سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي ‘ . | وكان ركوعه المعتاد مقدار عشر تسبيحات ، وسجوده كذلك ، وتارة يجعل الركوع والسجود بقدر القيام ، ولكن كان يفعله أحياناً في صلاة الليل وحده . 
 
 فهديه الغالب تعديل الصلاة وتناسبها . وكان يقول أيضاً في ركوعه : ‘ سبوح قدوس رب الملائكة والروح ‘ . وتارة يقول : ‘ اللهم لك ركعت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ، خشع لك سمعي ، وبصري ومخي ، وعظمي ، وعصبي ‘ وهذا إنما حفظ عنه في قيام الليل . 
 
ثم يرفع رأسه قائلا : ‘ سمع الله لمن حمده ‘ . ويرفع يديه ، وكان دائماً يقيم صلبه ، إذا رفع من الركوع ، وبين السجدتين ، ويقول : ‘ لا تجزيء صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود ‘ . 
 
 وكان إذا استوى قال : ‘ ربنا ولك الحمد ‘ وربما قال : ‘ ربنا لك الحمد ‘ وربما قال : ‘ اللهم ربنا لك الحمد ‘ . | وأما الجمع بين اللهم والواو ، فلم يصح .
 
وكان من هديه إطالة هذا الركن بقدر الركوع ، فصح عنه أنه كان يقول فيه : ‘ اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض ، وملء ما بينهما ، وملء ما شئت من شيء بعد ، أهل الثناء والمجد ، أحق ما قال العبد ، وكلنا لك عبد ، لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ‘ . 
 
وصح عنه أنه كان يقول فيه : ‘ اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ، ونقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ‘ . 
 
وصح عنه أنه كرر فيه قوله : ‘ لربي الحمد ، لربي الحمد ‘ . حتى كان بقدر ركوعه .

 

وذكر مسلم عن أنس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال : ‘ سمع الله لمن حمده ‘ قام حتى نقول : قد أوهم . ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول : قد أوهم . فهذا هديه المعلوم : وتقصير هذين الركنين مما تصرف فيه أمراء بني أمية حتى ظن أنه من السنة .

 

 

( فصل ) | ثم كان يكبّر ويخرّ ساجداً ، ولا يرفع يديه . 

وكان يضع ركبتيه ثم يديه بعدهما ، ثم جبهته وأنفه . هذا هو الصحيح فكان أول ما يقع منه على الأرض الأقرب إليها فالأقرب ، وأول ما يرتفع الأعلى فالأعلى ، فإذا رفع ، رفع رأسه أول ، ثم يديه ، ثم ركبتيه ، وهكذا عكس فعل البعير .
 
 وهو نهى عن التشبه بالحيوانات في الصلاة ، فنهى عن بروك كبروك البعير ، والتفات كالتفات الثعلب ، وافتراش كافتراش السبع ، وإقعاء كإقعاء الكلب ، ونقر كنقر الغُراب ، ورفع الأيدي وقت السلام كأذناب الخيل الشمس . 
 
وكان يسجد على جبهته وأنفه دون كور العمامة ، ولم يثبت عنه السجود عليه ، وكان يسجد على الأرض كثيراً ، وعلى الماء والطين ، وعلى الخمرة المتّخذة من خوص النخل ، وعلى الحصير المتّخذ منه ، وعلى الفروة المدبوغة . 
 
وكان إذا سجد مكّن جبهته وأنفه من الأرض ، ونحى يديه عن جنبيه ، وجافاهما حتى يُرى بياض إبطيه ، وكان يضع يديه حذو منكبيه وأذنيه ، ويعتدل في سجوده ، ويستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة ، ويبسط كفيه وأصابعه ، ولا يفرّج بينهما ، ولا يقبضهما . |
 
وكان يقول : ‘ سبحان ربي الأعلى ‘ وأمر به ، ويقول : ‘ سبحانك اللهم ربّنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي ‘ ويقول : ‘ سُبوح قدُّوس رب الملائكة والروح ‘ .
 
 وكان يقول : ‘ اللهم لك سجدت ، وبك آمنتُ ، ولك أسلمت ، سجد وجهي للذي خلقه وصوّرَه ، وشقّ سمعه وبصره ، تبارك الله أحسن الخالقين ‘ . 
 
وكان يقول : ‘ اللهمّ اغفر لي ذنبي كلّه دقّه وجلّه ، وأوّله وآخره ، وعلانيَته وسرَّه ‘ . |
 
 وكان يقول : ‘ اللهمّ اغفر لي خطاياي وجهلي ، وإسرافي في أمري ، وما أنت أعلم به مني ، اللهم اغفر لي جدّي وهزلي ، وخطاياي وعمدي وكل ذلك عندي ، اللهم اغفر لي ما قدّمت وما أخّرتُ ، وما أسررتُ وما أعلنتُ أنت إلهي لا إله إلا أنت ‘ .
 
 وأمر بالاجتهاد في الدعاء في السجود ، وقال : ‘ إنه قمنٌ أن يُستجاب لكم ‘ .

 

( فصل ) | ثم يرفع رأسه مكبراً غير رافع يديه ، 

ثم يجلس مفترشاً يفرشُ اليسرى ، ويجلس عليها ، وينصبُ اليمنى ، ويضع يديه على فخذيه ، ويجعل مرفقيه على فخذيه ، وطرف يده على ركبته ، ويقبض اثنتين من أصابعه ، ويحلق حلقة ، ثم يرفع إصبعه يدعو بها ، ويحرّكها ، ثم يقول : ‘ اللهم اغفر لي وارحمني ، واجبرني ، واهدني ، وارزقني ‘ هكذا ذكره ابن عباس عنه .
 
وذكر حذيفة عنه أنه كان يقول : ‘ ربِّ اغفر لي ‘ ثم ينهض على صدور قدميه وركبتيه ، معتمداً على فخذيه ، فإذا نهض افتتح القراءة ولم يسكت ، كما يسكت عند الإستفتاح .
 
ثم يصلي الثانية كالأولى إلا في أربعة أشياء : السكوت والإستفتاح ، وتكبيرة الإحرام ، وتطويلها . 
 
فإذا جلس للتشهد ، وضع يده اليسرى على فخذه الأيسر ، ويده اليمنى على فخذه الأيمن ، وأشار بالسبابة ، وكان لا ينصبها نصباً ، ولا ينيمها ، بل يحنيها شيئاً يسيراً ، ويحرّكها ، ويقبض الخنصر والبنصر ويحلق الوسطى مع الإبهام ويرفع السبابة يدعو بها ، ويرمي بصره إليها ، ويبسط الكف اليسرى على الفخذ اليسرى ، ويتحامل عليها . 
 
وأما صفة جلوسه ، فكما تقدّم بين السجدتين سواء .

 

وأما حديث ابن الزُّبير الذي رواه مسلم : كان إذا قعد في الصلاة جعل قدمه الأيسر بين فخذه وساقه ، وفرش قدمه الأيمن . فهذا في التشهد الأخير .
 
 ذكر ابن الزبير أنه يفرش اليمنى ، وذكر أبو حميد أنه ينصبها ، وهذا والله أعلم ليس باختلاف ، فإنه كان لا يجلس عليها ، بل يخرجها عن يمينه ، فتكون بين المنصوبة والمفروشة ، أو يقال : كان يفعل هذا وهذا ، فكان ينصبها ، وربما فرشها أحياناً ، وهو أروحُ لهما .
 
ثم كان يتشهد دائماً في هذه الجلسة ، ويُعلّم أصحابه أن يقولوا : ‘ التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهدُ أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ‘ وكان يخفّفه جداً كأنه يصلي على الرُّضف ،
 
 ولم ينقل عنه في حديثٍ قطّ أنه كان يصلي عليه وعلى آله فيه ، ولا يستعيذ فيه من عذاب القبر ، وعذاب جهنم ، وفتنة المحيا والممات ، وفتنة المسيح الدجّال ، ومن استحبّه فإنما فهمَه من عمومات قد تبين موضعها وتقييدها بالتشهد الأخير . 
 
ثم كان ينهض مكبِّراً على صدور قدميه ، وعلى ركبتيه معتمداً على فخذيه . 
 
وفي ‘ صحيح مسلم ‘ وبعض طرق البخاري ، أنه كان يرفع يديه في هذا الموضع ، ثم كان يقرأ الفاتحة وحدها ، ولم يثبت عنه أنه قرأ في الأخيرتين بعد الفاتحة شيئاً .

 

ولم يكن من هديه الالتفات في الصلاة . وفي ‘ صحيح البخاري ‘ أنه سئل عنه ، فقال : ‘ هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ‘ وكان يفعله في الصلاة أحياناً لعارض ، لم يكن من فعله الراتب ، كالتفاته إلى الشعب الذي بعث إليه الطليعة والله أعلم .
 
 وكان يدعو بعد التّشهد ، وقبل السلام ، وبذلك أمر في حديث أبي هريرة ، وحديث فضالة . 
 
وأما الدعاء بعد السلام مستقبل القبلة أو المأمومين ، فلم يكن ذلك من هديه أصلا وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها . 
 
وهذا هو اللائق بحال المصلي ، فإنه مقبل على ربه ، فإذا سلّم زال ذلك .
 
 ثم كان صلى الله عليه وسلم يسلّم عن يمينه : ‘ السلام عليكم ورحمة الله ‘ وعن يساره كذلك ، هذا كان فعله الراتب ، وروي عنه أنه كان يسلم تسليمة واحدة من تلقاء وجهه ، لكن لم يثبت ، وأجودُ ما فيه حديث عائشة وهو في ‘ السنن ‘ ، لكنه في قيام الليل ، وهو حديث معلول ، على أنه ليس صريحاً في الاقتصار على التسليمة الواحدة . 
 
 وكان يدعو في صلاته فيقول : ‘ اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجّال ، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم ‘ . 
 
وكان يقول في صلاته أيضاً : ‘ اللهم اغفر لي ذنبي ، ووسّع لي في داري ، وبارك لي في ما رزقتني ‘ . 
 
وكان يقول : ‘ اللهم إني أسألك الثّبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، وأسألك شكر نعمتك ، وحسن عبادتك ، وأسألك قلباً سليماً ، وأسألك

 

لساناً صادقاً ، وأسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم ‘ . 

 
والمحفوظ في أدعيته كلها ( في الصلاة ) بلفظ الإفراد . 
 
 وكان إذا قام في الصلاة طأطأ رأسه ، ذكره أحمد ، وكان في التشهد لا يُجاوز بصره إشارتَه ، وقد جعل الله قرّة عينه ونعيمه في الصلاة ، فكان يقول : ‘ يا بلال أرحنا بالصلاة ‘ ولم يشغله ذلك عن مراعاة المأمومين مع كمال حضور قلبه . 
 
 وكان يدخل في الصلاة وهو يريد إطالتها ، فيسمع بكاء الصبي ، فيخَفّفها مخافة أن يشقّ على أُمه ، وكذلك كان يصلي الفرض وهو حامل أمامة بنتَ ابنته على عاتقه ، إذا قام حملها ، وإذا ركع وسجد وضعها ، 
 
وكان يصلي فيجيء الحسن والحسين ، فيركبان على ظهره ، فيطيل السجدة كراهية أن يلقيَه عن ظهره ، وكان يصلي فتجيء عائشة ، فيمشي ، فيفتح لها الباب ، ثم يرجع إلى مصلاه .
 
 وكان يردّ السلام بالإشارة . | وأما حديث ‘ من أشار في صلاته فليُعِدها ‘ فحديث باطل . 
 
وكان ينفخ في صلاته ، ذكره أحمد ، وكان يبكي فيها ، ويتنحنحُ لحاجة . |
 
وكان يصلي حافياً تارة ، ومنتعلاً أخرى وأمر بالصلاة في النعل مخالفة لليهود ، وكان يصلي في الثوب الواحد تارة ، وفي الثوبين تارة وهو أكثر . 
 
 وقنت في الفجر بعد الركوع شهراً ثم ترك ، وكان قنوته لعارض ، فلما زال تركه ، فكان هديه القنوت في النوازل خاصة ، وتركه عند عدمها ، ولم يكن يخصه بالفجر ، بل كان أكثر قنوته فيه لأجل ما يشرع فيه من الطول ، ولقُربها من السحر وساعة الإجابة ، والتنزل الإلهي .

 

( فصل ) | وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ‘ إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تَنْسَوْنَ ، فإذا نسيتُ فذكِّروني ‘ 

وكان سهوهُ من تمام النعمة على أمته ، وإكمال دينهم ، ليقتدوا به ، فقام من اثنتين في الرباعية . 
 
فلما قضى صلاته ، سجد قبل السلام ، فأخذ منه أن من ترك شيئاً من أجزاءِ الصلاة التي ليست بأركان سجد له قبل السلام ، وأخذ من بعض طرقه أنه إذا ترك ذلك ، وشرع في ركن لم يرجع . وسلم من ركعتين في إحدى صلاتي العشي ، ثم تكلم ، ثم أتمّها ، ثم سلم ، ثم سجد . ثم سلم . 
 
وصلى وسلم ، وانصرف وقد بقي من الصلاة ركعة ، فقال له طلحة : نسيتَ ركعة .
 
 فرجع فدخل المسجد ، فأمر بلالا فأقام ، فصلى للناس ركعة ، ذكره أحمد . | وصلى الظهر خمساً ، فقالوا : صليت خمساً . فسجد بعد ما سلّم . وصلى العصر ثلاثاً ثم دخل منزله ، فذكّره الناس ، فخرج فصلى بهم ركعة ، ثم سلّم ، ثم سجد ، ثم سلّم . 
 
هذا مجموع ما حُفظ عنه ، وهي خمسة مواضع . | ولم يكن من هديه تغميض عينيه في الصلاة ، وكرهه أحمد وغيره ، وقالوا : هو من فعل اليهود . 
 
وأباحه جماعة ، والصواب أن الفتحَ إن كان لا يخلّ بالخشوع ، فهو أفضل ، وإن حال بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرف وغيره ، فهناك لا يكره .

 

وكان إذا سلم استغفر ثلاثاً ، ثم قال : ‘ اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام ‘ ولا يمكث مستقبل القبلة إلا مقدار ما يقول ذلك ، ويسرع الانفتال إلى المأمومين .
 
 وكان ينفتل عن يمينه وعن يساره ، ثم كان يقبل على المأمومين بوجهه ، ولا يخصُّ ناحية منهم دون ناحية . 
 
وكان إذا صلى الفجر جلس في مصلاّه حتى تطلع الشمس حسناء . | وكان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة : ‘ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ‘ . 
 
‘ اللهم لا مانعَ لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ، ولا نعبدُ إلا إياه ، له النعمة ، وله الفضل ، وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ، ولو كره الكافرون ‘ . |
 
وندب أمته إلى أن يقولوا في دبر كل صلاة مكتوبة : سبحان الله . ثلاثاً وثلاثين ، والحمد لله . ثلاثاً وثلاثين ، والله أكبر . ثلاثاً وثلاثين ؛ وتمام المائة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير . 
 
وذكر أبن حبّان في ‘ صحيحه ‘ عن الحارث بن مسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ‘ إذا صلّيت الصبح ، فقل قبل أن تتكلم : اللهم أجرني من النار . 
 
سبع مرات ، فإنك إن مت من يومك كتب الله لك جواراً من النار ، وإذا صلّيت المغرب ، فقل قبل أن تتكلم : اللهم أجرني من النار ، سبع مرات ، فإنك إن مت من ليلتك ، كتب الله لك جواراً من النار ‘ . 
 
 وكان إذا صلى إلى جدارٍ ؛ جعل بينه وبينَه قدر ممرّ الشاة ، ولم يكن يتباعد منه ، بل أمر بالقرب من السّترة ، وكان إذا صلى إلى عود ، أو عمود ، أو شجرة ، جعله على حاجبه الأيمن ، أو الأيسر ، ولم يصمد له صمداً ،
 
 وكان يركز الحربة في السفر ، والبرّية ، فيصلي إليها ، فتكون سترته ،
 
 وكان يعرض راحلته ، فيصلي إليها ، وكان يأخذ الرحْل ، فيعدله ، ويصلي إلى آخرته ، وأمر المصلي أن يستتر ؛ ولو بسهْمٍ ، أو عصا ، فإن لم يجد ، فليخطّ خطاً بالأرض ، فإن لم تكن سترة ، فقد صح عنه أنه : ‘ يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود ‘ ، ومعارض هذا صحيح ليس بصريح ، أو صريح ليس بصحيح .
 
 وكان يصلي وعائشة نائمة في قبلته ، وليس كالمارّ ، فإن الرجل يحرم عليه المرور ، ولا يكره له أن يكون لابثاً بين يدي المصلي .

 

وكان صلى الله عليه وسلم يحافظ على عشر ركعات في الحضر دائماً ، وهي التي قال فيها ابن عمر : حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات : ركعتين قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، وركعتين بعد المغرب ، وركعتين بعد العشاء في بيتِه ، وركعتين قبل صلاة الفجر .
 
 ولمّا فاتته الركعتان بعد الظهر ، قضاهما في وقت النهي بعد العصر ، وكان يصلي أحياناً قبل الظهر أربعاً ، وأما الركعتان قبل المغرب ، فصح عنه أنه قال : ‘ صلوا قبل المغرب ركعتين ‘ وقال في الثالثة : ‘ لمن شاء ‘ كراهة أن يتخذها النّاس سُنّة ، وهذا هو الصواب ؛ أنها مستحبة ، وليست بسنة راتبة . 
 
 وكان يصلي عام السُّنن والتطوع الذي لا سبب له في بيته لا سيما سنة المغرب ، فإنه لم ينقل عنه أنه فعلها في المسجد ألبتة ، وله فعلها في المسجد ، وكان محافظته على سنّة الفجر أشد من جميع النوافل ، وكذلك لم يكن يدعُها هي والوتر ، لا حضراً ولا سفراً ، ولم ينقل عنه أنه صلى في السفر سنّة راتبة غيرهما . 
 
وقد اختلف الفقهاء أيهما آكد ؟ وسنة الفجر تجري مجرى بداية العمل ، والوتر خاتمته ، ولذلك كان يُصليهما بسورتي ( الإخلاص ) وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل ، وتوحيد المعرفة والإرادة ، وتوحيد الاعتقاد والقصد ،
 
 ف ( قل هو الله أحد ) متضمنة لما يجب إثباته له تعالى من الأحدية المنافية لمطلق الشركة بوجه من الوجوه ، ونفي الولد والوالد المقرر لكمال صمديته وغناه وأحديته ، ونفي الكفء المتضمن لنفي الشّبيه والمثيل والنظير ، 
 
فتضمنت إثبات كل كمالٍ ، ونفي كل نقصٍ ، ونفي إثبات شبيه له أو مثيل في كماله ، ونفي مطلق الشرك ، وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الذي يُباين صاحبه جميع فرق الضلال والشرك ،
 
 ولهذا كانت تعدل ثلث القرآن ، فإن مدارهُ على الخبر والإنشاء ، والإنشاء ثلاثة : أمر ، ونهي ، وإباحة . 
 
والخبر نوعان : خبر عن الخالق تعالى ، وأسمائه ، وصفاته ، وأحكامه ، وخبر عن خلقه . 
 
فأخلصت سورة الإخلاص للخبر عنه ، وعن أسمائه وصفاته ، فعدلت ثلُثَ القرآن ، وخلصت قارئها من الشرك العلمي كما خلّصته سورة ( قل يا أيها الكافرون ) من الشرك العملي ، ولما كان العلم قبل العمل وهو إمامه وسائقه ، والحاكم عليه كانت ( قل هو الله أحد ) تعدل ثلث القرآن ، و ( قل يا أيها الكافرون ) تعدل ربع القرآن .
 
 ولما كان الشرك العملي أغلب على النفوس لمتابعة الهوى ، وكثير منها ترتكبه مع علمها بمضرته ، وقلعه منها أشد من قلع الشرك العلمي ، لأنه يزول بالحجة ، ولا يمكن صاحبه أن يعلم الشيء على غير ما هو عليه ، جاء التأكيد والتكرير في ( قل يا أيها الكافرون ) ولهذا كان يقرأ بهما في ركعتي الطواف ، لأن الحج شعار التوحيد ، ويفتح بهما عمل النهار ، ويختم بهما عمل الليل . 
 
وكان يضطجعُ بعد سنة الفجر على شقه الأيمن ، وقد غلا فيها طائفتان ، فأوجبها طائفة من أهل الظاهر ، وكرهها جماعة ، وسمّوها بدعة ، وتوسط فيها مالك وغيره ، فلم يروا بها بأساً لمن فعلها راحة ، وكرهوها لمن فعلها استناناً .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *