مختصر زاد المعاد لابن القيم
فصل : في هَديِه صلى الله عليه وسلم في الصّيام
لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات ، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية ، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها ، ويذكّرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين ، وتضييق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب ،
فهو لجام المتقين ، وجنة المحاربين ، ورياضة الأبرار المقربين ، وهو لرب العالمين من بين الأعمال ، فإن الصائم لا يفعل شيئاً ، وإنما يترك شهوته ،
فهو ترك المحبوبات لمحبة الله ، وهو سر بين العبد وربه ، إذ العباد قد يطلعون على ترك المفطرات الظاهرة ، وأما كونه ترك ذلك لأجل معبوده ، فأمر لا يطّلع عليه بشر ، وذلك حقيقة الصوم .
وله تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة ، والقوى الباطنة عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة ، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها ، فهو من أكبر العون على التقوى ، كما قال تعالى : ! 2 < يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون > 2 ! ( البقرة : 183 ) .
وأمر صلى الله عليه وسلم من اشتدت شهوته للنكاح ، ولا قدرة له عليه بالصيام ، وجعله وجاء هذه الشهوة .
وكان هديه صلى الله عليه وسلم فيه أكمل هدي ، وأعظمه تحصيلاً للمقصود ، وأسهله على النفوس ،
ولما كان فطم النفوس عن شهواتها ومألوفاتها من أشق الأمور ، تأخر فرضه إلى ما بعد الهجرة ، وفرض أولا على وجه التخيير بينه وبين أن يُطعم كل يوم مسكيناً ،
ثم حتم الصوم ، وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة إذا لم يطيقا ، ورخص للمريض والمسافر أن يفطرا ، ويقضيا ،
والحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما كذلك ، وإن خافتا على ولديهما زادتا مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم ، فإن فطرهما لم يكن لخوف مرض ، وإنما كان مع الصحة ، فجبر بإطعام مسكين ، كفطر الصحيح في أول الإسلام .
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادة ، وكان جبريل يدارسه القرآن في رمضان ، وكان يكثر فيه من الصدقة والإحسان ، وتلاوة القرآن ، والصلاة ، والذكر ، والاعتكاف .
وكان يخصه من العبادات بما لا يخص به غيره ، حتى إنه ليواصل فيه أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة .
وكان ينهى أصحابه عن الوصال ، فيقولون له : إنك تواصل ؟ فيقول : ‘ لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ‘ نهى عنه رحمة للأمة ، وأذن فيه إلى السحر .
( فصل ) | وكان من هديه أن لا يدخل في صوم رمضان إلا برؤية محققة ، أو بشهادة شاهد ،
فإن لم يكن رؤية ولا شهادة ، أكمل عدة شعبان ثلاثين ، وكان إذا حال ليلة الثلاثين دون منظره سحاب أكمل شعبان ثلاثين ، ولم يكن يصوم يوم الإغمام ، ولا أمرَ به ، بل أمر بإكمال عدة شعبان ولا يناقض هذا قوله : ‘ فإن غم عليكم فاقدرُوا له ‘ فإن القدر : هو الحساب المقدور ، والمراد به الإكمال .
وكان من هديه الخروج منه بشهادة اثنين ، وإذا شهد شاهدان برؤيته بعد خروج وقت العيد ، أفطر ، وأمرهم بالفطر ، وصلى العيد من الغد في وقتها .
وكان يعجل الفطر ، ويحث عليه ، ويتسحر ويحث عليه ، ويؤخره ويرغب في تأخيره ، وكان يحضُّ على الفطر على التمر ، فإن لم يجده ، فعلى الماء .
ونهى الصائم عن الرفث والصخب والسّباب ، وجواب السّباب ، وأمره أن يقول لمن سابّهُ : إني صائم .
وسافر في رمضان ، فصام ، وأفطر ، وخيّر أصحابه بين الأمرين ، وكان يأمرهم بالفطر إذا دنوا من العدو ، ولم يكن من هديه تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحد ، وكان الصحابة حين ينشئون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت ، ويخبرون أن ذلك هديُه وسنته صلى الله عليه وسلم .
وكان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ، فيغتسل بعد الفجر ويصوم ، وكان يقبّل بعض أزواجه وهو صائم في رمضان ، وشبّه قبلة الصائم بالمضمضة بالماء ، ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم التفريق بين الشاب والشيخ .
وكان من هديه إسقاط القضاء عمن أكل أو شرب ناسياً ، وأن الله هو الذي أطعمه وسقاه ، والذي صح عنه تفطير الصائم به : هو الأكل والشرب ، والحجامة والقيء ، والقرآن دل على الجماع ، ولم يصح عنه في الكحل شيء .
وصح عنه أنه يستاك وهو صائم ، وذكر أحمد عنه أنه كان يصب على رأسه الماء وهو صائم ، وكان يتمضمض ويستنشق وهو صائم ، ومنع الصائم من المبالغة في الاستنشاق ، ولا يصح عنه أنه احتجم وهو صائم .
قال أحمد : وروي عنه أنه قال في الإثمد : ‘ ليتقه الصائم ‘ ولا يصح ، قال ابن معين : حديث منكر .
( فصل ) | وكان يصوم حتى يقال : لا يفطر . ويفطر حتى يقال : لا يصوم .
وما استكمل صيام شهر غير رمضان ، وما كان يصوم في شهر أكثر مما كان يصوم في شعبان ، ولم يكن يخرج عنه شهر حتى يصوم منه ، وكان يتحرى صيام الإثنين والخميس .
وقال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفطر أيام البيض في حضرٍ ولا سفر . ذكره النسائي .
وكان يحضُّ على صيامها .
وأما صيام عشر ذي الحجة ، فقد اختلف عنه فيه ، وأمّا صيام ستة أيام من شوال ، فصح عنه أنه قال : ‘ صيامها مع رمضان يعدلُ صيام الدهر ‘ .
وأما يوم عاشوراء ، فإنه كان يتحرى صومه على سائر الأيام ، ولما قدم المدينة وجد اليهود تصومه وتعظمه ، فقال : ‘ نحن أحق بموسى منكم ‘ فصامه وأمر بصيامه ، وذلك قبل فرض رمضان ، فلما فرض رمضان قال : ‘ من شاء صامه ومن شاء تركه ‘ .
وكان من هديه إفطار يوم عرفة بعرفة ثبت عنه ذلك في ‘ الصحيحين ‘ وروي عنه أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة رواه أهل ‘ السنن ‘ وصح عنه أن ‘ صيامه يكفّر السّنة الماضية والباقية ‘ ذكره مسلم .
ولم يكن من هديه صيام الدهر ، بل قد قال : ‘ من صام الدهر لا صام ولا أفطر ‘ وكان يدخل على أهله ، فيقول : ‘ هل عندكم شيء ‘ ؟ فإن قالوا : لا . قال : ‘ إني إذاً صائم ‘ وكان أحياناً ينوي صوم التطوع ، ثم يفطر .
وأما حديث عائشة ، أنه قال لها ولحفصة : ‘ اقضيا يوماً مكانه ‘ فهو حديث معلول ، وكان إذا نزل على قوم وهو صائم أتم صيامه ، كما فعل لما دخل على أم سليم ، ولكن أُم سليم عنده بمنزلة أهل بيته .
وفي ‘ الصحيح ‘ عنه أنه قال : ‘ إذا دُعي أحدكم إلى طعام وهو صائم ، فليقل : إني صائم ‘ وكان من هديه كراهة تخصيص يوم الجمعة بالصوم .