مختصر زاد المعاد لابن القيم
( فصل في هَديِه صلى الله عليه وسلم في حجه وعمره )
اعتمر صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة أربع عمر كلهن في ذي القعدة .
الأولى : عمرة الحديبية سنة ست ، فصده المشركون عن البيت ، فنحرَ وحلق حيث صُدَّ هو وأصحابه وحَلُّوا .
الثانية : عمرة القضية في العام المقبل دخلها ، فأقام بها ثلاثاً ، ثم خرج .
الثالثة : عمرته التي قرنَها مع حجته .
الرابعة : عمرته من الجعرانة ، ولم يكن في عُمَره عمرة واحدة خارجاً من مكة ، كما يفعله كثير من الناس اليوم ، وإنما كانت عمره كلُّها داخلاً إلى مكة ،
وقد أقام بعد الوحي بمكة ثلاث عشر سنة لم ينقل عنه أنه اعتمر خارجاً من مكة ، ولم يفعله أحد على عهده قط إلا عائشة ، لأنها أهلّت بالعمرة ، فحاضت فأمرها فقرنت ، وأخبرها أن طوافها بالبيت وبالصفا والمروة قد وقع عن حجها وعمرتها ، فوجدت في نفسها أن ترجع صواحبها بحج وعمرة مستقلّين ، فإنهن كن متمتعات ، ولم يحضن ، ولم يقرن ، وترجع هي بعمرة في ضمن حجتها ، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم تطييباً لقلبها ، وكانت عُمره كلها في أشهر الحج مخالفاً لهدي المشركين فإنهم يكرهون العمرة فيها ، وهذا دليل على أن الاعتمار في أشهر الحج أفضل منه في رجب بلا شك ، وأما في رمضان ، فموضع نظر ، وقد صح عنه أن ‘ عمرة في رمضان تعدل حجة ‘ وقد يقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتغل في رمضان من العبادات بما هو أهم من العمرة مع ما في ترك ذلك من الرحمة لأمته ، فإنه لو فعل لبادرت الأمة إلى ذلك ، فكان يشق عليها الجمع بين العمرة والصوم ، وكان يترك كثيراً من العمل وهو يحب أن يعمله خشية المشقة عليهم .
ولم يحفظ عنه أنه اعتمر في السنة إلا مرة واحدة ، ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد الهجرة إلا حجة واحدة سنة عشر ، ولمّا نزل فرض الحج ، بادر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تأخير ، فإن فرضه تأخر إلى سنة تسع أو عشر .
وأما قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله ‘ البقرة : 196 ‘ فإنها وإن نزلت سنة ست ، فليس فيها فريضة الحج وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة ، بعد الشروع فيهما .
ولما عزم صلى الله عليه وسلم على الحج أعلم الناس أنه حاج ، فتجهزوا للخروج معه ، وسمع بذلك من حول المدينة ، فقدموا يريدون الحج ، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووافاه في الطريق خلائق لا يُحصَون ، وكانوا من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله مد البصر ، وخرج من المدينة نهاراً بعد الظهر لستٍ بقين من ذي القعدة بعد أن صلى الظهر بها أربعاً ، وخطبهم قبل ذلك خُطبة علمهم فيها الإحرام ، وواجباته وسنته ، فصلى الظهر ، ثم ترجل ، وادّهن ، ولبس إزاره ورداءه ، وخرج فنزل بذي الحليفة ، فصلى بها العصر ركعتين .
ثم بات بها ، وصلى بها المغرب والعشاء ، والصبح والظهر ، وكان نساؤه كلهن معه ، وطاف عليهن تلك الليلة ، فلما أراد الإحرام ، اغتسل غسلا ثانياً لإحرامه ، ثم طيّبته عائشة بيدها بذريرة وطيب فيه مسك في بدنه ورأسه حتى كان وبيصُ المسك يُرى في مفارقه ولحيته ، ثم استدامه ، ولم يغسله ، ثم لبس إزاره ورداءه ، ثم صلى الظهر ركعتين ، ثم أهلّ بالحج والعمرة في مصلاه . ولم ينقل أنه صلى للإحرام ركعتين .
وقلد قبل الإحرام بدنه نعلين ، وأشعرها في جانبها الأيمن ، فشق صفحة سنامها ، وسلَت الدَّم عنها .
وإنما قلنا : إنه أحرم قارناً . لبضعة وعشرين حديثاً صريحة صحيحة في ذلك ، ولبّد رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بالغسل وهو بالمعجمة : وهو ما يغسل به الرأس من خطمي ونحوه يلبد به الشعر حتى لا ينتشر ، وأهلَّ في مصلاه ،
ثم ركب ناقته ، فأهلَّ أيضاً ثم أهلَّ أيضاً لما استقلّت به على البيداء ، وكان يهل بالحج والعمرة تارة ، وبالحج تارة ، لأن العمرة جزء منه ، فمن ثمَّ قيل : قَرَن .
وقيل : تمتع . وقيل أفرد . وقول ابن حزم : إن ذلك قبل الظهر بيسير .
وهم منه ، والمحفوظ أنه إنما أهلَّ بعد الظهر ، ولم يقل أحد قط : إن إحرامه كان قبل الظهر . فلا أدري من أين له هذا .
ثم لبّى ، فقال : ‘ لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، ، لا شريك لك ‘ ورفع صوته بهذه التلبية حتى سمعها أصحابه ، وأمرهم بأمر الله له أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية . وكان حجه على رحل لا محمل وزاملته تحته ، وقد اختلف في جواز ركوب المحرم في المحمل والعمارية ونحوهما .
وخيرهم صلى الله عليه وسلم عند الإحرام بين الأنساك الثلاثة ، ثم ندبهم عند دنوهم من مكة إلى فسخ الحج والقران إلى العمرة لمن لم يكن معه هدي ، ثم حتم ذلك عليهم عند المروة .
وولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر ، فأمرها أن تغتسل ، وتستثفر بثوب وتحرم وتهلَّ .
ففيه جواز غسل المحرم ، وأن الحائض تغتسل ، وأن الإحرام يصح من الحائض .
ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُلبّي بتلبيته المذكورة ، والناس معه يزيدون فيها وينقصون ، وهو يقرهم .
فلما كان بالروحاء ، رأى حمار وحش عقيراً قال : ‘ دعوه ، فإنه يوشك أن يأتي صاحبه ‘ فجاء صاحبه ، فقال : ‘ شأنكم به ‘ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ، فقسمه بين الرفاق ، ففيه جواز أكل المحرم صيد الحلال إذا لم يصد لأجله ، ويدل على أن الصيد يُملك بالإثبات .
ثم مضى حتى إذا كان بين الرُّويْثَة والعَرْج إذا ظبي حاقف في ظل فيه سهم ، فأمر رجلاً أن يقف عنده لا يريبه أحد ، والفرق بينه وبين الحمار أنه لم يعلم أن الذي صاده حلال .
ثم سار حتى إذا نزل بالعرج ، وكانت زاملتُه وزاملة أبي بكر واحدة مع غلام لأبي بكر ، فطلع الغلام وليس معه البعير ، فقال : أين بعيرك ؟ قال : أضللته البارحة .
فقال أبو بكر : بعيراً واحداً وتُضله ! فطفق يضربه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ، ويقول : ‘ انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع ‘ .
ثم مضى حتى إذا كان بالأبواء ، أهدى له الصعب بن جثامة عَجُز حمار وحشٍ ، فرده ، وقال : ‘ إنا لم نردَه عليك إلا أنّا حُرم ‘ .
فلما مرَّ بوادي عُسفان قال : ‘ يا أبا بكر أي وادٍ هذا ‘ ؟ قال : وادي عُسفان .
قال : ‘ لقد مرَّ به هود وصالح على بكرين أحمرين خُطُمهما الليف ، وأزرهما العَباء ، وأرديتهما النمار يلبُّون يحجون البيت العتيق ‘ ذكره أحمد .
فلما كان بسَرف حاضت عائشة ، وقال لأصحابه بسَرف : ‘ من لم يكن معه هدي ، فأحب أن يجعلها عمرة ، فليفعل ، ومن كان معه هدي فلا ‘ وهذه رتبة أخرى فوق رتبة التخيير عند الميقات ، فلما كان بمكة ، أمر أمراً حتماً من لا هَدي معه أن يجعلها عمرة ، ويحل من إحرامه ، ومن معه هدي أن يقيم على إحرامه ، ولم ينسخ ذلك شيء ألبتة ، بل سأله سراقة بن مالك عن هذه العمرة التي أمرهم بالفسخ إليها : هل هي لعامهم ذلك أم للأبد ؟ فقال : ‘ بل للأبد ‘ قال : ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن نزل بذي طُوى وهي المعروفة بآبار الزاهر ، فبات بها ليلة الأحد لأربعٍ خلون من ذي الحجة ، وصلى بها الصبح ، ثم اغتسل من يومه ، ونهض إلى مكة ، فدخلها نهاراً من أعلاها من الثنية العليا التي تشرف على الحجون ، وكان في العمرة يدخلها من أسفلها ، ثم سار حتى دخل المسجد ، وذلك ضحىً .
وذكر الطبري أنّه دخل من باب بني عبد مناف الذي يُسمّى باب بني شيبة ، وذكر أحمد أنه كان إذا دخل مكاناً من دار يعلى استقبل البيت ، ودعا ، وذكر الطبري أنه كان إذا نظر إلى البيت قال : ‘ اللهمَّ زدْ هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابةً ‘ .
وروي عنه أنه كان عند رؤيته يرفع يديه ، ويكبر ، ويقول : ‘ اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، حينا ربنا بالسلام ، اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً ، وتكريماً ومهابة ، وزد من حجّه أو اعتمره تكريماً وتشريفاً وتعظيماً وبراً ‘ وهو مرسل .
فلمّا دخل المسجد ، عمد إلى البيت ، ولم يركع تحيّة المسجد ، فإن تحية المسجد الحرام الطواف ، فلمّا حاذى الحجر ، استلمه ، ولم يزاحم عليه ، ولم يتقدم عنه إلى جهة الركن اليماني ، ولم يرفع يديه ، ولم يقل : نويت بطوافي هذا الأسبوع كذا وكذا .
ولا افتتحه بالتكبير ، ولا حاذى الحجر بجميع بدنه ، ثم انفتلَ عنه وجعله على شقه الأيمن ، بل استقبَلَهُ واستلمه ، ثم أخذ على يمينه ، ولم يدع عند الباب ، ولا تحت الميزاب ، ولا عند ظهر الكعبة وأركانها ، ولا وقت للطواف ذكراً معيّناً ، بل حفظ عنه بين الركنين : ( ربّنا آتنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) .
ورَمَلَ في طوافه هذه الثلاثة الأشواط ، وقاربَ بين خُطاه ، واضطبعَ بردائه ، فجعله على أحد كتفيه ، وأبدى كتفه الآخر ومنكبَه ، وكلما حاذى الحجر الأسود أشار إليه ، واستلمه بمِحْجَنه وقبّل المحجن ، وهو عصاً محنية الرأس .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه استلم الركن اليماني ، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قبّله ، ولا قبّل يده عند استلامه ، وثبتَ عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قبل الحجر الأسود ، وثبت عنه أنه استلمه بيده ، فوضع يده عليه ، ثم قبّلها ، وثبت عنه أنه استلمه بمحجنه ، فهذه ثلاث صفات .
وذكر الطّبراني بإسناد جيد أنه إذا استلم الركن قال : ‘ بسم الله والله أكبر ‘ وكلما أتى على الحجر الأسود قال : ‘ الله أكبر ‘ .
ولم يستلم صلى الله عليه وسلم ، ولم يمس من الأركان إلا اليمانيين فقط . |
فلما فرغ من طوافه جاء إلى خلف المقام ، فقرأ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ‘ البقرة : 125 ‘ فركع ركعتين ، والمقام بينه وبين البيت ، قرأ فيهما بعد الفاتحة ب ‘ سورتي الإخلاص ‘ وقراءته الآية بيان منه المراد منها لله بفعله ، فلما فرغ من صلاته أقبل على الحجر ، فاستلمه ، ثم خرج إلى الصّفا من الباب الذي يقابله ، فلما دني منه قرأ إن الصفا والمروة من شعائر الله ‘ أبدَأ بما بَدَأَ الله به ‘ وللنّسائي ‘ ابْدؤوا ‘ على الأمر .
ثم رقى عليه حتى رَأَى البيت ، فاستقبل القبلة ، فوحّد الله وكبّره ، وقال : ‘ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملكُ ، وله الحمدُ ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده ، أنجزَ وعده ، ونصر عبدهُ ، وهزم الأحزاب وحدهُ ‘ ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات ، ثم نزل إلى المروة يمشي فلمّا انصبّتْ قدماه سعى حتى إذا جاوز الوادي وأصعد ، مشى ، وذلك قبل الميلين الأخضرين في أوّل المسعى ، والظاهر أنّ الوادي لم يتغير عن وضعه .
فكان صلى الله عليه وسلم إذا وصَلَ المروة رقى عليها ، واستقبل البيت ، وكبّر الله ووحده ، وفعل كما فعل على الصّفا ، فلمّا أكمل سعيه عند المروة ، أَمَرَ كلّ من لا هديَ معه أن يحل حتماً ، وأمرهم أن يحلوا الحل كله ، وأن يبقوا كذلك إلى يوم التروية ، ولم يحل من أجل هديه ، وهناك قال : ‘ لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة ‘ وهناك دعا للمحلّقين بالمغفرة ثلاثاً ، وللمقصرين مرة .
وأما نساؤه فأحللن ، وكن قارنات إلا عائشة ، فإنها لم تحل من أجل تعذر الحل بالحيض ، وأمر من أهل كإهلاله أن يقيم على إحرامه إن كان معه هدي ، وأن يحل إن لم يكن معه هدي .
وكان يصلي مدة مقامه إلى يوم التروية بمنزله بالمسلمين بظاهر مكة ، فأقام أربعة أيام يقصر الصلاة ، فلما كان يوم الخميس ضحى توجه بمن معه من المسلمين إلى منى ، فأحرم بالحج من كان أحل منهم من رحالهم ، ولم يدخلوا إلى المسجد ، بل أحرموا ومكة خلف ظهورهم .
فلمّا وصل إلى منى ، نزل وصلى بها الظهر والعصر وبات بها ، فلما طلعت الشمس ، سار إلى عرفة ، وأخذ على طريق ضب على يمين طريق الناس اليوم ، وكان من الصحابة الملبي ، ومنهم المكبر ، وهو يسمع ولا ينكر ، فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة بأمره ، وهي قرية شرقي عرفات ، وهي خراب اليوم ، فنزل فيها حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء فرحلت ، ثم سار حتى أتى بطن الوادي من أرض عُرَنَة .
فخطب الناس وهو على راحلته خطبة عظيمة ، قرر فيها قواعد الإسلام ، وهدم فيها قواعد الشرك والجاهلية ، وقرر فيها تحريم المحرمات التي اتفقت الملل على تحريمها وهي الدماء والأموال والأعراض ،
ووضع فيها أمور الجاهلية تحت قدميه ، ووضع فيها ربا الجاهلية كله وأبطله ، وأوصاهم بالنساء خيراً وذكر الحق الذي لهن وعليهن ، وأن الواجب لهن الرزق ، والكسوة بالمعروف ، ولم يقدر ذلك تقديراً ،
وأباح للأزواج ضربهن إذا أدخلن إلى بيوتهن من يكرههُ أزواجهن ، وأوصى فيها الأمة بالاعتصام بكتاب الله ، وأخبر أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين به ، ثم أخبرهم أنهم مسؤولون عنه ، واستنطقهم بماذا يقولون ، وبماذا يشهدون ؟ فقالوا : نشهدُ أنك قد بلغت وأديت ونصحتَ .
فرفع أصبعه إلى السماء ، واستشهد الله عليهم ثلاث مراتٍ ، وأمرهم أن يبلغ شاهدهم غائبهم وخطب خطبة واحدة ولم تكن خطبتين جلس بينهما .
فلمّا أتمها ، أمر بلالاً فأَذّن ، ثم أقام ، فصلى الظهر ركعتين أسرَّ فيهما القراءة وكان يوم الجمعة ، فدل على أنّ المسافر لا يصلي الجمعة ، ثم أقام ، فصلى العصر ركعتين أيضاً ، ومعه أهل مكة ، فصلوا بصلاته قصراً وجمعاً ، وفيه أوضح دليل على أن سفر القصر لا يتحدد بمسافةٍ معلومةٍ .
فلما فرغ من صلاته ، ركب حتى أتى الموقف ، فوقف في ذيل الجبل عند الصخرات ، واستقبل القبلة ، وجعل حبل المشاة بين يديه ، وكان على بعيره ، فأخذ في الدعاء والتضرع والابتهال إلى غروب الشمس ، وأمر الناس أن يرفعوا عن بطن عُرَنَةَ ، وأخبر أن ‘ عرفة كلها موقف ‘ وأرسل إلى الناس أن يكونوا على مشاعرهم ، ويقفُوا بها ، فإنها من إرث أبيهم إبراهيم ، وكان في دعائه رافعاً يديه إلى صدره ، كاستطعام المسكين ، وأخبرهم ‘ أنَّ خير الدعاء يوم عرفة ‘
وذكر من دعائه صلى الله عليه وسلم في الموقف : ‘ اللهمَّ لك الحمد كالذي تقول ، وخيراً مما نقول : اللهمَّ لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي ، وإليك مَآبي ، ولك ربِّ تراثي ، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ، ووسوسة الصدر ، وشتات الأمر ، اللهمّ إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح ‘ ذكره الترمذي .
ومما ذكر من دعائه هناك : ‘ اللهمَّ إنك تسمعُ كلامي ، وترى مكاني ، وتعلم سري وعلانيتي ولا يخفى عليك شيء من أمري ، أنا البائس الفقير ، المستغيث المستجيرُ ، الوجل المشفق ، المقر المعترف بذنوبه ، أسألك مسألة المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير من خضعت لك رقبتهُ ، وفاضت لك عيناه ، وذل جسده ، ورغم أنفه لك ، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقياً ، وكن بي رؤوفاً رحيماً يا خير المسئولين ، ويا خير المعطين ‘ ذكره الطبراني .
وذكر أحمد من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدِّه : كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة ‘ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير ‘ وأسانيد هذه الأدعية فيها لين .
وهنا أنزلت عليه : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ‘ المائدة : 3 ‘ .
وهناك سقط رجل عن راحلته ، فمات فأمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفن في ثوبيه ، ولا يمس بطيب وأن يغسل بماءٍ وسدرٍ ، ولا يغطى رأسه ولا وجهه ، وأخبرَ أنَّ الله تعالى يبعثه يوم القيامة يلبي . | وفيه اثنا عشر حكماً :
الأول : وجوب غسل الميت .
الثاني : أنه لا ينجس بالموت ، لأنه لو تنجس ، لم يزده غسله إلا نجاسة .
الثالث : أن الميت يغسل بماءٍ وسدرٍ .
الرابع : أن تغير الماء بالطاهرات لا يسلبُهُ طهوريته .
الخامس : إباحة الغسل للمحرم .
السادس : أنَّ المحرم غير ممنوع من الماء والسدر .
السابعُ : أنَّ الكفن مقدم على الميراث وعلى الدين ، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يكفن في ثوبيه ولم يسأل عن وارثه ولا عن دين عليه .
الثامن : جواز الاقتصار في الكفن على ثوبين .
التاسع : أن المحرم ممنوع من الطيب .
العاشر : أن المحرم ممنوع من تغطية رأسه .
الحادي عشر : منع المحرم من تغطية وجهه وبإباحته قال ستة من الصحابة ، واحتج المبيحون بأقوال هؤلاء ، وأجابوا عن قوله : ‘ لا تخمروا وجهه ‘ بأن هذه اللفظ غير محفوظة .
الثاني عشر : بقاء الإحرام بعد الموت .
فلما غربت الشمس ، واستحكم غروبها بحيث ذهبت الصفرة ، أفاض من عرفة ، وأردف أُسامة بن زيد خلفهُ ، وأفاض بالسكينة وضم إليه زمام ناقته حتى إن رأسها ليضرب طرف رحله ، وهو يقول : ‘ أيها الناس عليكم السكينة ، فإن البر ليس بالإيضاع ‘ أي : بالإسراع .
وأفاض من طريق المأزمَيْنِ ، ودخلَ عرفة من طريق ضب ، وهكذا كانت عادته صلوات الله وسلامُهُ عليه في الأعياد أن يخالف الطريق ، ثم جعل يسير العَنَق وهو ضرب من المسير ليس بالسريع ولا البطيء فإذا وجد فجوة – وهو المتسع – نصَّ سيره ، أي : رفعه فوق ذلك ، وكلما أتى ربوة من الرّبى أرخى للناقة زمامها قليلاً حتى تصعد .
وكان يلبي في مسيره ذلك لا يقطع التلبية ، فلما كان في أثناء الطريق نزل ، فبال وتوضأ وضوءاً خفيفاً ، فقال له أسامة : الصلاة يا رسول الله . قال : ‘ المصلى أمامك ‘ .
ثم سار حتى أتى مزدلفة فتوضأ وضوء الصلاة ، ثم أمرَ بالأذان ، فأذن المؤذن ، ثم أقام ، فصلى المغرب قبل حطّ الرّحال ، وتبريك الجمال ، فلمّا حطوا رحالهم أمرَ ، فأقيمت الصلاة ، ثم صلى العشاء بإقامة بلا أذانٍ ، ولم يصل بينهما شيئاً ، ثم نام حتى أصبح .
ولم يحي تلك الليلة ، ولا صحّ عنه في إحياء ليلتي العيدين شيء ، وأذن في تلك الليلة لضعفة أهله أن يتقدموا إلى منى قبل طلوع الفجر ، وكان عند غيبوبة القمر ، وأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس ، وأما الحديث الذي فيه أن أم سلمة رمت قبل الفجر ، فحديث منكر أنكره أحمد وغيره ، ثم ذكر حديث سَوْدة ، وأحاديث غيره ، ثم قال :
ثمَّ تأملنا فإذا أنّه لا تعارض بين هذه الأحاديث ، فإنه أَمَر الصبيان أن لا يرمُوا الجمرة حتى تطلع الشمس ، فإنه لا عذر لهم في تقديم الرمي ، أما من قدمه من النساء ، فرمين قبل طلوع الشمس للعُذر ، والخوف عليهن من المزاحمة ، وهذا الذي دلت عليه السنة : جواز الرمي قبل طلوع الشمس لعذر من مرض أو كبر ، وأما القادر الصحيح ، فلا يجوز له ذلك .
والذي دلت عليه السُّنة إنما هو التعجيل بعد غيبوبة القمر لا نصف الليل ، وليس مع من حده بالنصف دليل .
فلما طلع الفجر صلاها في أول الوقت – لا قبله قطعاً – بأذان وإقامة ، ثم ركب حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة ، وأخذ في الدعاء والتضرع والتكبير والتهليل والذكر حتى أسفر جداً ، ووقف صلى الله عليه وسلم في موقفه ، وأعلم الناس أن مزدلفة كلها موقف ، ثم سار مردفاً للفضل وهو يلبي في مسيره ، وانطلق أُسامة على رجليه في سُبّاقِ قريش .
وفي طريقه ذلك أمر ابن عباس أن يلقط له حصى الجمار سبع حصيات ، ولم يكسرها من الجبل تلك الليلة ، كما يفعله من لا علم عنده ، ولا التقطها بالليل ، فالتقط له سبعاً من حصى الخذف ، فجعل ينفضهن في كفه ، ويقول :
‘ أمثال هؤلاء فارموا ، وإياكم والغلو في الدين ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ‘ ، فلما أتى بطن محسر حرك ناقته وأسرع السير ، وهذه كانت عادته في المواضع التي نزل بها بأس الله بأعدائه ، فإن هناك أصاب أصحاب الفيل ما قص الله ، ولذلك سمي وادي محسِّر ، لأن الفيل حسر فيه ، أي : أعيى وانقطع عن الذهاب إلى مكة .
وكذلك فعل في سلوكه الحجر . ومحسر : برزخ بين منى ومزدلفة ، لا من هذه ، ولا من هذه ، وعرنة : برزخ بين عرفة والمشعر الحرام فبين كل مشعرين برزخ ليس منهما ، فمنى من الحرم وهي مشعر ، ومحسر من الحرم ، وليس بمشعر ، ومزدلفة : حرم ومشعر ، وعرنة ليست مشعراً ، وهي من الحل ، وعرفة حل ومشعر .
وسلك الطريق الوسطى بين الطريقين وهي التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى منى ، فأتى جمرة العقبة ، فوقف في أسفل الوادي ، وجعل البيت عن يساره ، ومنى عن يمينه ، واستقبل الجمرة وهو على راحلته ، فرماها راكباً بعد طلوع الشمس واحدة بعد واحدة يكبر مع كل حصاة وحينئذ قطع التلبية وبلال وأُسامة معه أحدهما آخذ بخطام ناقته ، والآخر يظله بثوبه من الحر ، وفيه جواز استظلال المحرم بالمحمل ونحوه .
( فصل ) | ثم رجع إلى منى ، فخطب خطبة بليغة أعلمهم فيها بحرمة يوم النحر وتحريمه وفضله ، وحرمة مكة على جميع البلاد ، وأمر بالسمع والطاعة لمن قادهم بكتاب الله ، وأمر الناس بأخذ مناسكهم عنه ،
وقال : ‘ لعلي لا أحج بعد عامي هذا ‘ وعلمهم مناسكهم ، وأنزل المهاجرين والأنصار منازلهم ، وأمر الناس أن لا يرجعوا بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض ، وأمر بالتبليغ عنه ، وأخبر أنه ‘ رُبَّ مبلغٍ أوعى من سامعٍ ‘ وقال في خطبته : ‘ لا يجني جانٍ إلا على نفسه ‘ وأنزل المهاجرين عن يمين القبلة ، والأنصار عن يسارها ، والناس حولهم ، وفتح الله له أسماع الناس حتى سمعه أهل منى في منازلهم ، وقال في خطبته تلك : ‘ اعبدوا ربكم ، وصلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم ‘ وودع حينئذ الناس ، فقالوا : حجة الوداع .
ثم انصرف إلى المنحر بمنى ، فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده وكان ينحرها قائمة معقولة يدها اليسرى ، وكان عددها عدد سني عمره ، ثم أمسك ، وأمر علياً أن ينحر ما بقي من المائة ، ثم أمره أن يتصدق بجلالها وجلودها ولحومها في المساكين ، وأمره أن لا يعطي الجزار في جزارتها شيئاً منها ، وقال : ‘ نحن نعطيه من عندنا ‘ وقال : ‘ من شاء اقتطع ‘ .
فإن قيل ففي ‘ الصحيحين ‘ عن أنس في حجته ، ونحر صلى الله عليه وسلم بيده سبع بُدُن قياماً ؟ قيل : يخرج على أحد وجوه ثلاثة :
أحدها : أنه لم ينحر بيده أكثر من سبع بدن ، وأنه أمر من نحر إلى تمام ثلاث وستين ، ثم زال عن ذلك المكان وأمر علياً ، فنحر ما بقي .
الثاني : أن يكون أنس لم يشاهد إلا السبع ، وشاهد جابر تمام النحر .
الثالث : أنه نحر بيده منفرداً سبعاً ، ثم أخذ هو وعلي الحربة معاً فنحرا كذلك تمام ثلاث وستين كما قال غُرْفَة بن الحارث الكندي : أنه شاهد النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ قد أخذ بأعلى الحربة ، وأَمر علياً فأخذ بأسفلها ، ونحرا بها البُدْن .
ثم انفرد عليّ بنحر الباقي من المائة ، والله أعلم .
ولم ينقل أحد أنه صلى الله عليه وسلم ، ولا أصحابه جمعوا بين الهدي والأضحية ، بل كان هديهم هو ضحاياهم ، فهو هدي بمنى ، وأضحية بغيرها ، وأما قول عائشة : ضحى عن نسائه بالبقر ، فهو هدي أطلق عليه اسم الأضحية ، فإنهن كن متمتعات ، وعليهن الهدي ، وهو الذي نحره عنهن ، لكن في قصة نحر البقرة عنهن وهن تسع إشكال وهو : إجزاء البقرة عن أكثر من سبعة ، وهذا الحديث جاء بثلاثة ألفاظ . |
أحدها : بقرة واحدة بينهن .
الثاني : أنه ضحى عنهن يومئذٍ بالبقر .
الثالث : دُخِل علينا يوم النحر بلحم بقر ، فقلت : ما هذا ؟ فقيل : ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه .
وقد اختلف في عدد من تجزيء عنهم البدنة والبقرة ، فقيل : سبعة ، وقيل : عشرة .
وهو قول إسحاق ، ثم ذكر أحاديث ، ثم قال : وهذه الأحاديث تخرج على أحد وجوه ثلاثة إما أن يقال : أحاديث السبعة أكثر وأصح ، وإما أن يقال : عدل البعير بعشرة من الغنم في الغنائم ، لأجل تعديل القسمة ، وأما في الهدايا والضحايا ، فهو تقدير شرعي ، وإما أن يقال : ذلك يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والإبل والله أعلم .
ونحر صلى الله عليه وسلم بمنحره بمنى ، وأعلمهم أن ‘ منى كلها منحر ‘ وأن ‘ فجاج مكة طريق ومنحر ‘ وفيه دليل على أن النحر لا يختص بمنى ، بل حيث نحر من فجاج مكة أجزأه ، لقوله : ‘ وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف ‘ وسئل أن يبنى له بمنى مظلة من الحر ، فقال : ‘ لا مِنى مناخ من سبق ‘ وفيه دليل على اشتراك المسلمين فيها ، وأن من سبق إلى مكانٍ ، فهو أحق به حتى يرتحل عنه ، ولا يملك بذلك .
فلما أكمل نحره ، استدعى بالحلاق ، فحلق رأسه ، وقال : ‘ يا معمر أمكنك رسول الله من شحمة أذنه ، وفي يدك الموسى ‘ فقال : أما والله يا رسول الله إن ذلك لمن نعمة الله عليَّ ومنّه قال : ‘ أجل ‘ . ذكره أحمد وقال له : ‘ خذ ‘ وأشار إلى جانبه الأيمن ، ثم قسمه بين من يليه ، ثم أشار إليه ، فحلق الأيسر ، ثم قال : ‘ هاهنا أبو طلحة ؟ ‘ فدفعه إليه .
ودعا للمحلقين بالمغفرة ثلاثاً ، وللمقصرين مرة ، وهو دليل على أن الحلق نسكٌ ليس بإطلاق من محظور .
( فصل ) | ثم أفاض إلى مكة قبل الظهر راكباً ، فطاف طواف الإفاضة ، ولم يطف غيره ، ولم يسع معه ،
هذا هو الصواب ، ولم يرمل فيه ، ولا في طواف الوداع ، وإنما رمل في طواف القدوم .
ثم أتى زمزم وهم يسقون ، فقال : ‘ لولا أن يغلبكم الناس لنزلت فسقيت معكم ‘ ثم ناولوه الدلو ، فشرب وهو قائم ، قيل : لأن النهي عن الشرب قائماً على وجه الاختيار ، وقيل : للحاجة وهو أظهر ، وفي ‘ الصحيح ‘ عن ابن عباس : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن ، وفيه مثله من حديث جابر ، وفيه : لأن يراه الناس ، وليشرف ، وليسألوه ، فإن الناس غشوه .
وهذا ليس بطواف الوداع ، فإنه طافه ليلاً ، ولا طواف القدوم ، فإنه رمل فيه ، ولم يقل أحد : رملت به راحلته . ثم رجع إلى منى .
واختلف هل صلى الظهر بها أو بمكة ؟ وطافت عائشة في ذلك اليوم طوافاً واحداً ، وسعت سعياً واحداً أجزأها عن حجها وعمرتها ، وطافت صفية ذلك اليوم ، ثم حاضت فأجزأها ذلك عن طواف الوداع ، فاستقرت سنته صلى الله عليه وسلم إذا حاضت المرأة قبل الطواف أن تقرن وتكتفي بطوافٍ واحدٍ ، وسعيٍ واحدٍ ، وإن حاضت بعد طواف الإفاضة أجزأها عن طواف الوداع .
ثم رجع إلى منى من يومه ذلك فبات بها ، فلما أصبح انتظر زوال الشمس ، فلما زالت مشى إلى الجمرة ولم يركب فبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف ، فرماها بسبع حصيات واحدة بعد واحدة يقول مع كل حصاة : الله أكبر ، ثم تقدم عن الجمرة أمامها حتى أسهل فقام مستقبل القبلة ، ثم رفع يديه ، ودعا دعاءً طويلا بقدر سورة البقرة ، ثم أتى الوسطى ، فرماها كذلك .
ثم انحدر ذات اليسار مما يلي الوادي ، فوقف مستقبل القبلة رافعاً يديه يدعو قريباً من وقوفه الأول ، ثم أتى جمرة العقبة ، فاستبطن الوادي وجعل البيت عن يساره ، فرماها بسبع حصيات كذلك ، ثم رجع ، ولم يقف عندها ، فقيل : لضيق المكان .
وقيل – وهو أصح – : إن دعاءه كان في نفس العبادة ، فلما رماها ، فرغ الرمي ، والدعاء في صلب العبادة أفضل .
ولم يزل في نفسي هل كان يرمي قبل الصلاة أو بعدها ، والذي يغلب على الظن أنه قبلها ، لأن جابراً وغيره قالوا : كان يرمي إذا زالت الشمس .
( فصل ) | فقد تضمنت حجته صلى الله عليه وسلم ست وقفات للدعاء : على الصفا ، وعلى المروة ، وبعرفة ، وبمزدلفة ، وعند الجمرة الأولى ، وعند الجمرة الثانية .
وخطب بمنى خطبتين ، يوم النحر وتقدمت ، والثانية في أوسط أيام التشريق ، واستأذنه العباس أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته ، فأذن له ، واستأذنه رعاء الإبل في البيتوتة خارج منى عند الإبل ، فأرخص لهم أن يرموا يوم النحر ، ثم يجمعوا رمي يومين بعده يرمونه في أحدهما .
قال مالك : ظننت أنه قال : في أول يوم منهما ، ثم يرمون يوم النفر .
وقال ابن عيينة في هذا الحديث : رخص للرعاء أن يرموا يوماً ، ويدعوا يوماً ، فيجوز للطائفتين بالسنة ترك المبيت بمنى ، وأما الرمي ، فإنهم لا يتركونه ، بل لهم أن يؤخروه إلى الليل ، ولهم أن يجمعوا رمي يومين في يوم .
ومن له مالٌ يخاف ضياعه ، أو مريض يخاف من تخلفه عنه ، أو كان مريضاً لا يمكنه البيتوتة ، سقطت عنه بتنبيه النص على هؤلاء ، ولم يتعجل في يومين ، بل تأخر حتى أكمل الرمي في الأيام الثلاثة ،
و أفاض يوم الثلاثاء بعد الظهر إلى المحصب ، وهو الأبطح ، وهو خيف بني كنانة ، فوجد أبا رافع قد ضرب قبته هناك ، وكان على ثقله توفيقاً من الله عز وجل دون أن يأمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى به الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء ، ورقد رقدة ، ثم نهض إلى مكة ، فطاف للوداع ليلا سحراً .
ورغبت إليه عائشة تلك الليلة أن يعمرها عمرة مفردة ، فأخبرها أن طوافها بالبيت وبالصفا والمروة قد أجزأها عن حجها وعمرتها ، فأبت إلا أن تعتمر عمرة مفردة ، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم ، ففرغت من عمرتها ليلا ، ثم وافت المحصب مع أخيها في جوف الليل ، فقال : ‘ فرغتما ‘ ؟ قالت : نعم . فنادى بالرحيل ، فارتحل الناس .
وفي حديث الأسود في ‘ الصحيح ‘ عنها : فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصعد من مكة ، وأنا منهبطة عليها ، أو أنا مصعدة وهو منهبط منها .
ففيه أنهما تلاقيا ، وفي الأول أنه انتظرها في منزله ، فإن كان حديث الأسود محفوظاً ، فصوابه : لقيني وأنا مصعدة من مكة وهو منهبط إليها .
فإنها قضت عمرتها ، ثم أصعدت لميعاده ، فوافته وقد أخذ في الهبوط إلى مكة للوداع ، وله وجه غير هذا .
واختلف في التحصيب هل هو سنة أو منزل اتفاق ؟
( فصل ) | ويرى كثير من الناس أن دخول البيت من سنن الحج ، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم ،
والذين تدل عليه سنته أنه لم يدخله في حجته ، ولا في عمرته ، وإنما دخله عام الفتح ، وكذلك الوقوف في الملتزم الذي روي عنه أنه فعله يوم الفتح ، وأما ما رواه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أنه وضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه وبسطهما ، وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله .
فهذا يحتمل أن يكون وقت الوداع ، وأن يكون في غيره ، ولكن قال مجاهد وغيره : يستحب أن يقف في الملتزم بعد طواف الوداع ، وكان ابن عباس يلتزم ما بين الركن والباب .
وفي ‘ صحيح البخاري ‘ أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج ، ولم تكن أم سلمة طافت بالبيت وهي شاكية ، وأرادت الخروج ، فقال لها ‘ إذا أقيمت صلاة الصبح ، فطوفي على بعيرك والناس يصلون ‘ .
ففعلت ولم تصل حتى خرجت ، وهذا محال أن يكون يوم النحر ، فهو طواف الوداع بلا ريب ، فظهر أنه صلى الصبح يومئذ بمكة ، وسمعته أم سلمة يقرأ ب ( الطور ) ثم ارتحل راجعاً إلى المدينة .
فلما كان بالروحاء لقي ركباً ، فسلم عليهم ، وقال : ‘ من القوم ‘ ؟ فقالوا : المسلمون . قالوا : فمن القوم ؟ فقال : ‘ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‘
فرفعت إليه امرأة صبياً لها من محفةٍ ، فقالت : يا رسول الله ألهذا حج ؟ قال : ‘ نعم ولك أجر ‘ .
فلما أتى ذا الحليفة ، بات بها ، فلما رأى المدينة كبر ثلاث مرات ، وقال : ‘ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، آيبون تائبون عابدون ساجدون ، لربنا حامدون ، صدق الله وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ‘ ثم دخلها نهاراً من طريق المعرس وخرج من طريق الشجرة .