مختصر زاد المعاد لابن القيم
( فصل : في هَديِه صلى الله عليه وسلم في حفظ المنْطِق واختيار الألفاظ )
كان يتخير في خطابه ، ويختار لأمته أحسن الألفاظ وأبعدها من ألفاظ أهل الجفاء والفحش ، فلم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً ولا فظاً .
وكان يكره أن يستعمل اللفظ الشريف في حق من ليس كذلك ، وأن يستعمل اللفظ المكروه في حق من ليس من أهله .
فمن الأول منعه أن يقال للمنافق : سيد ، ومنه أن يسمى العنب كرماً ، ومنعه من تسمية أبي جهل بأبي الحكم ، وكذلك تغييره لاسم أبي الحكم من الصحابة وقال : ‘ إن الله هو الحكم وإليه الحكم ‘ ومنه نهيه المملوك أن يقول لسيده : ربي .
وللسيد أن يقول لمملوكه : عبدي وأمتي .
وقال لمن ادعى أنه طبيب : ‘ أنت رفيق ، وطبيبها الذي خلقها ‘ ، والجاهلون يسمون الكافر الذي له علم بشيء من الطب حكيماً ، ومنه قوله للذي قال : ومن يعصهما فقد غوى : ‘ بئس الخطيب أنت ‘
ومنه قوله : ‘ لا تقولوا : ما شاء الله وشاء فلان ‘ وفي معناه قول من لا يتوقى الشرك : أنا بالله وبك ، وأنا في حسب الله وحسبك ، وما لي إلا الله وأنت ، وأنا متوكل على الله وعليك ، وهذا من الله ومنك ووالله وحياتك .
وأمثال هذه الألفاظ التي يجعل قائلها المخلوق نداً لله ، وهي أشدُّ منعاً وقبحاً من قوله : ما شاء الله وشئت .
فأما إذا قال : أنا بالله ، ثم بك ، وما شاء الله ثم شئت ، فلا بأس كما في حديث الثلاثة : ‘ لا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ‘ .
وأما القسم الثاني وهو أن تطلق ألفاظ الذم على من ليس من أهلها ، فمثل نهيه عن سب الدهر ، وقال : ‘ إن الله هو الدهر ‘ وفيه ثلاث مفاسد .
أحدها : سب من ليس بأهل .
الثانية : أن سبه متضمن للشرك ، فإنه إنما سبه لظنه أنه يضر وينفع ، وأنه ظالم ، وأشعار هؤلاء في سبه كثيرة جداً ، وكثير من الجهال يصرح بلعنه .
الثالثة : أن السب إنما يقع على من فعل هذه الأفعال التي لو اتبع الحق فيها أهواءهم لفسدت السموات والأرض ، وإذا وافقت أهواءهم حمدوا الدهر ، وأثنوا عليه .
ومن هذا قوله : ‘ لا يقولن أحدكم : تعس الشيطان . فإنه يتعاظم حتى يكون مثل البيت ، ويقول : صرعته بقوتي .
ولكن ليقل : باسم الله ، فإنه يتصاغر حتى يكون مثل الذباب ‘ وفي حديث آخر : ‘ إن العبد إذا لعن الشيطان يقول : إنك لتلعن ملعناً ‘ ومثل هذا قول : أخزى الله الشيطان ، وقبح الله الشيطان .
فإن ذلك كله يفرحه ، ويقول : علم ابن آدم أني نلته بقوتي .
وذلك مما يعينه على إغوائه ، فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم من مسّه شيء من الشيطان : أن يذكر الله ، ويذكر اسمه ، ويستعيذ بالله منه ، فإن ذلك أنفع له ، وأغيظ للشيطان .
ومن ذلك نهيه أن يقول الرجل : خَبُثت نفسي . ولكن يقول :
لقسَتْ نفسي ، ومعناها واحد ، أي : غَثِيَتْ نفسي ، وساء خلقها ، فكره لهم لفظ الخبث لما فيه من القبح والشناعة .
ومنه نهيه عن قول القائل بعد فوات الأمر : لو أني فعلت كذا وكذا .
وقال : ‘ إنها تفتح عمل الشيطان ‘ وأرشده إلى ما هو أنفع منها ، وهو أن يقول : ‘ قَدر الله وما شاء فعل ‘ .
وذلك لأن قوله : لو كنت فعلت كذا لم يفتني ما فاتني ، أو لم أقع فيما وقعت فيه .
كلام لا يجدي عليه فائدة ، فإنه غير مستقبل لما استدبر ، وغير مستقيل عثرته بلو ،
وفي ضمنها أن الأمر لو كان كما قدره في نفسه ، لكان غير ما قضاه الله ، ووقوع خلاف المقدر محال ، فقد تضمن كلامه كذباً وجهلاً ومحالاً ، وإن سلم من التكذيب بالقدر ، لم يسلم من معارضته بلو .
فإن قيل : فتلك الأسباب التي تمناها من القدر أيضاً ؟ قيل : هذا حق ، ولكن هذا ينفع قبل وقوع القدر المكروه ، فإذا وقع ، فلا سبيل إلى دفعه أو تخفيفه ، بل وظيفته في هذه الحال أن يستقبل الفعل الذي يدفع به أو يخفف ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه ،
فإنه عجز محض ، والله يلوم على العجز ، ويحب الكيس ، وهو مباشرة الأسباب فهي تفتح عمل الخير ، وأما العجز ، فيفتح عمل الشيطان ، فإنه إذا عجز عما ينفعه صار إلى الأماني الباطنة ،
ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل ، وهما مفتاح كل شر ، ويصدر عنهما الهم والحزن ، والجبن والبخل ، وضلع الدين ، وغلبة الرجال ، فمصدرها كلها عن العجز والكسل ، وعنوانها ‘ لو ‘ فإن المتمني من أعجز الناس وأفلسهم ، وأصل المعاصي كلها العجز ،
فإن العبد يعجز عن أسباب الطاعات ، وعن الأسباب التي تبعده عن المعاصي وتحول بينه وبينها ، فجمع في هذا الحديث الشريف أصول الشر وفروعه ، ومبادئه وغاياته ، وموارده ومصادره ، وهو مشتمل على ثمان خصال ، كل خصلتين قرينتان ، فقال : ‘ أعوذ بك من الهم والحزن ‘ وهما قرينان ،
فإن المكروه الوارد على القلب إما أن يكون سببه أمراً ماضياً ، فهو يحدث الحزن ، وإما توقع مستقبل ، فهو يورث الهم ، وكلاهما من العجز ، فإن ما مضى لا يدفع بالحزن ، بل بالرضى والحمد ، والصبر والإيمان بالقدر .
وقول العبد : ‘ قدر الله وما شاء فعل ‘ .
وما يستقبل لا يدفع بالهم ، بل إما أن يكون له حيلة في دفعه ، فلا يعجز عنه ، وإما أن لا يكون له حيلة ، فلا يجزع عنه ، ويلبس له لباسه من التوحيد والتوكل والرضى بالله رباً فيما يحب ويكره ، والهم والحزن يضعفان العزم ، ويوهنان القلب ، ويحولان بين العبد وبين الاجتهاد فيما ينفعه ، فهما حمل ثقيل على ظهر السائر .
ومن حكمة العزيز الحكيم تسليط هذين الجندين على القلوب المعرضة عنه ليردها عن كثير من معاصيها ، ولا تزال هذه القلوب في هذا السجن حتى تخلص إلى فضاء التوحيد والإقبال على الله ولا سبيل إلى خلاص القلب من ذلك إلا بذلك ، ولا بلاغ إلا بالله وحده ، فإنه لا يوصل إليه إلا هو ولا يدل عليه إلا هو .
وإذا قام العبد في أي مقام كان ، فبحمده وحكمته أقامه فيه ، ولم يمنع العبد حقاً هو له ، بل منعه ليتوسل إليه بمحابه فيعطيه ، وليرده إليه وليعزه بالتذلل له ، وليغنيه بالافتقار إليه ، وليجبره بالانكسار بين يديه وليوليه بعزله أشرف الولايات ، وليشهده حكمته في قدرته ، ورحمته في عزته ، وإن منعه عطاء ، وعقوبته تأديب ، وتسليط أعدائه عليه سائق يسوقه إليه والله أعلم حيث يجعل مواقع عطائه ، وأعلم حيث يجعل رسالته .
وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ‘ سورة الأنعام : 53 ‘ فهو سبحانه أعلم بمحال التخصيص ، فمن ردّه المنع إليه ، انقلب عطاء ، ومن شغله عطاؤه عنه ، انقلب منعاً ، وهو سبحانه وتعالى أراد منا الاستقامة ، واتخاذ السبيل إليه ، وأخبرنا أن هذا المراد لا يقع حتى يريد من نفسه إعانتنا ومشيئتنا له ، كما قال تعالى : ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) ‘ سورة التكوير : 19 ‘ .
فإن كان مع العبد روح أخرى نسبتها إلى روحه كنسبة روحه إلى جسده يستدعى بها إرادة الله من نفسه أن يفعل به ما يكون به العبد فاعلا ، وإلا فمحله غير قابل للعطاء ، وليس معه إناء يوضع فيه العطاء ، فمن جاء بغير إناء ، رجع بالحرمان ، فلا يلومن إلا نفسه .
والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم استعاذ من الهم والحزن ، وهما قرينان ، ومن العجز والكسل ، وهما قرينان ، فإن تخلف صلاح العبد وكماله عنه إما أن يكون لعدم قدرته عليه ، فهو عجز ، أو يكون قادراً لكن لا يريده ، فهو كسل ،
وينشأ عن هاتين الصفتين فوات كل خير ، وحصول كل شر ، ومن ذلك الشر تعطيله عن النفع ببدنه وهو الجبن ، وعن النفع بماله وهو البخل ، ثم ينشأ له من ذلك غلبتان غلبة بحق وهي غلبة الدّين ، وغلبة بباطل وهي غلبة الرجال ، وكل هذه ثمرة العجز والكسل .
ومن هذا قوله في الحديث الصحيح للذي قضى عليه ، فقال : ‘ حسبي الله ونعم الوكيل ‘ إن الله يلوم على العجز ، ولكن عليك بالكيس ، فإذا غلبك أمر ، فقل : ‘ حسبي الله ونعم الوكيل ‘ فهذا قالها بعد عجزه عن الكيس الذي لو قام به ، لقضي له على خصمه ، فلو فعل الأسباب ، ثم غلب ، فقالها لوقعت موقعها ،
كما أن إبراهيم الخليل لما فعل الأسباب المأمور بها ولم يعجز بترك شيء منها ، ثم غلبه العدو ، وألقوه في النار قال : ( حسبي الله ونعم الوكيل ) فوقعت الكلمة موقعها ، فأثرت أثرها .
وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم أُحد لما قيل لهم بعد انصرافهم من أُحد : ( إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ) فتجهزوا وخرجوا لهم ، ثم قالوا ، فأثرت أثرها ،
ولهذا قال الله تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ‘ سورة الطلاق : 3 ‘ وقال الله تعالى : واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ‘ سورة المائدة : 11 ‘ .
فالتوكل والحسب بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض ، وإن كان مشوباً بنوع من التوكل ، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزاً ، ولا عجزه توكلاً ، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها .
ومن هاهنا غلط طائفتان .
إحداهما : زعمت أن التوكل وحده سبب مستقل ، فعطلت الأسباب التي اقتضتها حكمة الله .
الثانية : قامت بالأسباب وأعرضت عن التوكل ، والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم أرشد العبد إلى ما فيه غاية كماله أن يحرص على ما ينفعه ويبذل جهده وحينئذ ينفعه التحسّب بخلاف من فرّط ، ثم قال : حسبي الله ونعم الوكيل .
فإن الله يلومه ، ولا يكون في هذه الحال حسبه ، فإنما هو حسب من اتقاه ، ثم توكل عليه .