مختصر زاد المعاد لابن القيم
فصل : في هَديِه صلى الله عليه وسلم في زيارة المرضى
( فصل : في هَديِه صلى الله عليه وسلم في زيارة المرضى ) | كان يعود من مَرِضَ من أصحابه ، وعاد غلاماً كان يخدمه من أهل الكتاب وعاد عمّه وهو مشرك ، وعرض عليهما الإسلام فأسلم اليهودي .
وكان يدنو من المريض ، ويجلس عند رأسه ويسأله عن حاله ،
وكان يمسح بيده اليمنى على المريض ، ويقول : ‘ اللهم رب الناس ، أذهب البأس ، واشفِ أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً ‘ .
وكان يدعو للمريض ثلاثاً ، كما قال : ‘ اللهم اشفِ سعداً ‘ ثلاثا ، وكان إذا دخل على المريض يقول : ‘ لا بأس ، طهور إن شاء الله ‘ وربما قال : ‘ كفارة وطهور ‘ .
وكان يرقي من كان به قرحة أو جرح أو شكوى فيضع سبابته بالأرض ، ثم يرفعها ويقول :
‘ بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا ‘
وهذا في ‘ الصحيحين ‘ وهو يبطل اللفظة التي جاءت في حديث السبعين ألفاً ‘ لا يرقون ‘ وهو غلط من الراوي .
ولمن يكن من هديه أن يخصَّ يوماً بالعيادة ، لا وقتاً ، بل شرع لأمته عيادة المريض ليلا ونهاراً .
وكان يعود من الرّمد وغيره ، وكان أحياناً يضع يده على جبهة المريض ، ثم يمسحُ صدره وبطنه ، ويقول : ‘ اللهمَّ اشفه ‘ .
وكان يمسح وجههُ أيضاً ، وإذا أيِس من المريض قال : ‘ إنّا لله وإنا إليه راجعون ‘ .
وكان هديه في الجنائز أكمل هدي مخالفاً لهدي سائر الأمم مشتملاً على الإحسان إلى الميت وإلى أهله وأقاربه ، وعلى إقامة عبودية الحي فيما يعامل به الميت ،
فكان من هديه إقامة عبودية الرب تعالى على أكمل الأحوال ، وتجهيز الميت إلى الله تعالى على أحسن الأحوال ، ووقوفه وأصحابه صفوفاً يحمدون الله ، ويستغفرون له ،
ثم يمشي بين يديه إلى أن يودِعوه حفرته ، ثم يقوم هو وأصحابه على قبره سائلين له الثبات ، ثم يتعاهده بالزيارة إلى قبره ، والسلام عليه ، والدعاء له .
فأول ذلك تعاهده في مرضه ، وتذكيره الآخرة ، وأمره بالوصية والتوبة ، وأمر من حضره بتلقينه شهادة أن لا إله إلا الله ، لتكون آخر كلامه ، ثم نهى عن عادة الأمم التي لا تؤمن بالبعث من لطم الخدود ، ورفع الصوت بالندب والنياحة ، وتوابع ذلك .
وسن الخشوع للموت ، والبكاء الذي لا صوت معه ، وحزن القلب ، وكان يفعله ويقول : ‘ تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي الربّ ‘ وسن لأمته الحمد والاسترجاع والرضا عن الله .
وكان من هديه الإسراع بتجهيز الميت إلى الله ، وتطهيره وتنظيفه وتطييبه ، وتكفينه في ثياب البياض ،
ثم يؤتى به إليه ، فيصلي عليه بعد أن كان يدعى له عند احتضاره ، فيقيم عنده حتى يقضي ،
ثم يحضر تجهيزه ، ويصلي عليه ، ويشيّعهُ إلى قبره ، ثم رأى أصحابه أن ذلك يشق عليه ، فكانوا يجهزون ميتهم ، ثم يحملونه إليه ، فيصلي عليه خارج المسجد ، وربما كان يصلي أحياناً عليه في المسجد ، كما صلى على سهيل بن بيضاء وأخيه فيه .
وكان من هديه تغطية وجه الميت إذا مات وبدنه ، وتغميض عينيه وكان ربما يقبِّل الميت ، كما قبّل عثمان بن مظعون وبكى .
وكان يأمر بغسل الميت ثلاثاً أو خمساً أو أكثر بحسب ما يراه الغاسل ، ويأمر بالكافور في الغسلة الأخيرة .
وكان لا يغسل الشهيد قتيل المعركة ، وكان ينزع عنهم الجلود والحديد ، ويدفنهم في ثيابهم ، ولم يصل عليهم ، وأمر أن يغسل المحرم بماءٍ وسدرٍ .
ويكفن في ثوبي إحرامه ، ونهى عن تطييبه ، وتغطية رأسه ، وكان يأمر من ولي الميت أن يحسن كفنه ، ويكفنه في البياض ، وينهى عن المغالاة في الكفن ، وإذا قصر الكفن عن ستر جميع البدن غطى رأسه ، وجعل على رجليه شيئاً من العشب .
وكان إذا قدم إليه ميت سأل : هل عليه دين ؟ فإن لم يكن عليه دين صلى عليه ، وإن كان عليه دين ، لم يصل عليه ، وأمر أصحابه أن يصلوا عليه ، فإن صلاته شفاعة ، وشفاعته موجبة ، والعبد مرتهن بدينه لا يدخل الجنة حتى يقضى عنه ، فلما فتح الله عليه كان يصلي على المدين ، ويتحمل دينه ، ويدع ماله لورثته .
فإذا أخذ في الصلاة عليه ، كبّر ، وحمدَ الله ، وأثنى عليه . وصلى ابن عباس على جنازة ، فقرأ بعد التكبيرة الأولى بالفاتحة ، وجهر بها ، وقال : لتعلموا أنها سُنّة .
قال شيخُنا : لا تجب قراءتها ، بل هي سُنّة . وذكر أبو أمامة بن سهْل عن جماعة من الصحابة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها .
وروى يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة أنه سأل عبادة بن الصامت عن صلاة الجنازة ، فقال : أنا والله أخبرك ، تبدأ فتكبر ،
ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، وتقول : اللهم إن عبدك فلاناً كان لا يشرك بك ، وأنت أعلم به ، إن كان محسناً فزد في إحسانه ، وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه ، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده .
ومقصود الصلاة عليه الدُّعاء ، ولذلك حفظ عنه ، ونقل من الدُّعاء ما لم ينقل من قراءة الفاتحة ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وحفظ من دعائه : | ‘ اللهم إن فلان ابن فلان في ذمتك ، وحبل جوارك ، فقِه فتنة القبرة ، وعذاب النار ، وأنت أهل الوفاء ، والحقّ ، فاغفر له ، وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم ‘ .
وحفظ من دعائه أيضاً : ‘ اللهم أنت ربها ، وأنت خلقتها ، وأنت رزقتها ، وأنت هديتها للإسلام ، وأنت قبضت روحها ، تعلم سرَّها وعلانيتها ، جئنا شفعاء فاغفر لها ‘ وكان يأمر بإخلاص الدعاء للميت .
وكان يكبر أربع تكبيرات ، وصح عنه أنه كبر خمساً ، وكان الصحابة يكبرون أربعاً وخمساً وستاً .
قال علقمة : قلت لعبد الله : إن ناساً من أصحاب معاذ قدموا من الشام ، فكبروا على ميِّتٍ لهم خمساً ، فقال : ليس على الميت في التكبير وقت ، كبّر ما كبّر الإمام ، فإذا انصرف الإمام فانصرف .
قيل للإمام أحمد : أتعرف عن أحدٍ من الصحابة أنهم كانوا يسلمون تسليمتين على الجنازة ؟ قال : لا ، ولكن عن ستة من الصحابة أنهم كانوا يسلمون تسليمة واحدة خفيفة عن يمينه ، فذكر ابن عمر وابن عباس وأبا هريرة .
وأما رفع اليدين فقال الشافعي : ترفع للأثر ، والقياس على السُّنّة في الصلاة . ويريد بالأثر ما روي عن ابن عمر وأنس أنهما كانا يرفعان أيديهما كلما كبّرا على الجنازة .
وكان إذا فاتته الصلاة على الجنازة صلى على القبر ، فصلى مرة على قبر بعد ليلة ، ومرة بعد ثلاثٍ ، ومرة بعد شهر ، ولم يوقت في ذلك وقتاً ، ومنع منها مالك إلا للولي إذا كان غائباً .
وكان يقوم عند رأس الرجل ، ووسط المرأة ، وكان يصلي على الطفل ، وكان لا يصلي على من قتل نفسه ، ولا على من غلَّ من الغنيمة ، واختلف عنه في الصلاة على المقتول حدًّا كالزاني .
فصح عنه أنه صلى على الجهنية التي رجمها ، واختلف في ماعز ، فإما أن يقال : لا تعارض بين ألفاظه ، فإن الصلاة فيه هي الدُّعاء ، وترك الصلاة عليه تركها على جنازته تأديباً وتحذيراً .
وإما أن يقال : إذا تعارضت ألفاظه عدل عنها إلى الحديث الآخر .
وكان إذا صلى عليه تبعه إلى المقابر ماشياً أمامه ، وسن للراكب أن يكون وراءها ، وإن كان ماشياً يكون قريباً منها ، إما خلفها ، أو أمامها ، أو عن يمينها ، أو عن شمالها .
وكان يأمر بالإسراع بها حتى إن كانوا ليرملون بها رملاً ، وكان يمشي إذا تبعها ، ويقول : ‘ لم أكن لأركب والملائكة يمشون ‘ فإذا انصرف فربما ركب .
وكان لا يجلس حتى توضع ، وقال : ‘ إذا تبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع ‘ .
ولم يكن من هديه الصلاة على كل ميت غائب ، وصح عنه أنه صلى على النجاشي صلاته على الميت ، وتركه سنة ، كما أن فعله سنّة ، فإن كان الغائب مات ببلدٍ لم يصل عليه فيه ، صلي عليه ، فإن النجاشي مات بين الكفار .
وصح عنه أنه أمر بالقيام للجنازة لما مرّت به ، وصح عنه أنه قعد ، فقيل : القيام منسوخ . وقيل : الأمران جائزان ، وفعله بيان للاستحباب ، وتركه بيان للجواز . وهذا أولى .
وكان من هديه أن لا يدفن الميت عند طلوع الشمس ، ولا عند غروبها ، ولا حين قيامها .
وكان من هديه اللّحدُ ، وتعميق القبر ، وتوسيعه من عند رأس الميت ورجليه ، ويذكر عنه أنه كان إذا وضع الميت في القبر قال : ‘ بسم الله وبالله ، وعلى ملة رسول الله ‘ وفي رواية : ‘ بسم الله ، وفي سبيل الله ، وعلى ملّة رسول الله ‘ .
ويذكر عنه أنه كان يحثو على الميت إذا دفن من قبل رأسه ثلاثاً ، وكان إذا فرغ من دفن الميت ، قام على قبره هو وأصحابه ، وسأل له التثبيت ، وأمرهم بذلك .
ولم يكن يجلس يقرأ على القبر ولا يلقن الميت ، ولم يكن من هديه تعلية القبور ، ولا بناؤها ، ولا تطيينها ، ولا بناء القباب عليها ، وقد بعث علي بن أبي طالب أن لا يدع تمثالاً إلا طمسه .
ولا قبراً مشرفاً إلا سواه ، فسنته تسوية هذه القبور المشرفة كلها .
ونهى أن يجصص القبر ، وأن يبنى عليه ، وأن يكتب عليه ، وكان يعلِّم من أراد أن يعرف قبره بصخرة ، ونهى عن اتخاذ القبور مساجد ، وإيقاد السرج عليها ، ولعن فاعله ، ونهى عن الصلاة إليها ، ونهى أن يتخذ قبره عيداً .
وكان هديه أن لا تهان القبور وتوطأ ، ويجلس عليها ، ويتكأ عليها ، ولا تعظم بحيث تتخذ مساجدَ وأعياداً وأوثاناً .
وكان يزور قبور أصحابه للدعاء لهم ، والاستغفار لهم ،
وهذه هي الزيارة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم إذا زاروها أن يقولوا : ‘ السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العافية ‘ .
وكان يقول ويفعل عند زيارتها من جنس ما يقوله عند الصلاة عليه ، فأبى المشركون إلا دعاء الميت والإشراك به ، وسؤاله الحوائج ، والاستعانة به ، والتوجه إليه عكس هديه صلى الله عليه وسلم فإنه هدي توحيد وإحسان إلى الميت . |
وكان من هديه تعزية أهل الميت ، ولم يكن من هديه أن يجتمع ويقرأ له القرآن ، لا عند القبر ، ولا غيره .
وكان من هديه أن أهل الميت لا يتكلفون الطعام للناس ، بل أمر أن يصنع الناس لهم طعاماً ، وكان من هديه ترك نعي الميت ، بل كان ينهى عنه ، ويقول : ‘ هو من عمل أهل الجاهلية ‘ .