فصل : في هَديِه صلى الله عليه وسلم في صدقة التطوّع

 

مختصر زاد المعاد لابن القيم


 

 

( فصل : في هَديِه صلى الله عليه وسلم في صدقة التطوّع ) 

 

كان أعظم الناس صدقة بما ملكت يده ، ولا يستكثر شيئاً أعطاه لله ، ولا يستقله ، وكان لا يسأل أحد شيئاً عنده إلا أعطاه ، قليلا كان أو كثيراً ، 

وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما أخذه ، وكان إذا عرض له محتاج ، آثره على نفسه ، تارة بطعامه ، وتارة بلباسه . 

 

وكان يتنوع في أصناف إعطائه وصدقته ، فتارةً بالهدية ، وتارة بالصدقة ، وتارة بالهبة ، وتارة بشراء الشيء ، 

ثم يعطي البائع السلعة والثمن ، وتارة يقترض الشيء ، فيردّ أكثر منه ، ويقبل الهدية ، ويكافيء عليها بأكثر منها ، تلطفاً وتنوعاً في ضروب الإحسان بكل ممكن ،

وكان إحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله ، فيخرج ما عنده ، ويأمر بالصدقة ، ويحض عليها ، فإذا رآه البخيل ، دعاه حاله إلى البذل . 

 

وكان من خالطه لا يملك نفسه عن السماحة ، ولذلك كان أشرح الخلق صدراً ، وأطيبهم نفساً ، فإن للصدقة والمعروف تأثيراً عجيباً في شرح الصدر ، فانضاف ذلك إلى ما خصه الله به من شرح صدره بالرسالة وخصائصها وتوابعها ، وشرح صدره حساً ، وإخراج حظ الشيطان منه .

 وأعظم أسباب شرح الصدر التوحيد ، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه ، قال الله تعالى :أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ( سورة الزمر : 22 ) . 

 

وقال تعالى :  فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا .. الآية ( سورة الأنعام : 125 ) . 

ومنها النور الذي يقذفه الله في القلب ، وهو نور الإيمان ، وفي الترمذي مرفوعاً ‘ إذا دخل النور القلب انفسخ وانشرح ‘ الحديث . 

ومنها العلم ، فإنه يشرح الصدر ، ويوسّعه ، وليس هذا لكل علم ، بل للموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم .

 ومنها الإنابة إلى الله ، ومحبته بكل القلب ، وللمحبة تأثير عجيب في انشراح الصدر ، وطيب النفس ، وكلما كانت المحبة أقوى ، كان الصدر أشرح ، ولا يضيق إلا عند رؤية البطّالين . 

ومنها دوام الذكر ، فللذكر تأثير عجيب في انشراح الصدر .

 ومنها الإحسان إلى الخلق ، ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه ، والنفع بالبدن ، وأنواع الإحسان . 

 ومنها الشجاعة ، فإن الشجاع منشرح الصدر . 

وأما سرور الروح ولذّتها ، فمحرّم على كل جَبان ، كما هو محرم على كل بخيل ، وعلى كل معرض عن الله ، غافل عن ذكره ، جاهلٍ به وبدينه ، متعلق القلب بغيره ، 

ولا عبرة بانشراح صدر هذا لعارض ، ولا بضيق صدر هذا لعارض ، فإن العوارض تزول بزوال أسبابها ، وإنما المعوّل على الصفة التي قامت بالقلب توجب انشراحه وحبسه ، فهي الميزان .

ومنها بل من أعظمها إخراج دغل القلب من الصفات المذمومة ، ومنه ترك فضول النظر والكلام ، والاستماع والخلطة ، والأكل والنوم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *