تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » فصل : في هَديِه صلى الله عليه وسلم في قِيامِ اللَّيل

فصل : في هَديِه صلى الله عليه وسلم في قِيامِ اللَّيل

  • بواسطة

مختصر زاد المعاد لابن القيم


 

فصل : في هَديِه صلى الله عليه وسلم في قِيامِ اللَّيل 

لم يكن صلى الله عليه وسلم يدع صلاة الليل حضراً ولا سفراً ، وإذا غلبه نوم أو وجع ، صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة ، فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : في هذا دليل على أن الوتر لا يقضى ، لفوات محله ، كتحية المسجد ، والكسوف ، والاستسقاء ، لأن المقصود به أن يكون آخر صلاة الليل وتراً .

 
 وكان قيامه بالليل إحدى عشرة ركعة ، أو ثلاث عشرة ركعة ، حصل الاتفاق على إحدى عشرة ركعة ، واختلف في الركعتين الأخيرتين ، هل هما ركعتا الفجر ، أم غيرهما ؟ .

 

 
 فإذا انضاف ذلك إلى عدد ركعات الفرض ، والسُّنن الراتبة التي كان يحافظ عليها ، جاء مجموع ورده الراتب بالليل والنهار ، أربعين ركعة ، كان يحافظ عليها دائماً ، وما زاد على ذلك فغير راتب . 

 

 
فينبغي للعبد أن يواظب على هذا الورد دائماً إلى الممات ، فما أسرع الإجابة ، وأعجل فتح الباب لمن يقرعه كل يوم وليلة أربعين مرة ، والله المستعان . 
 
وكان إذا استيقظ من الليل قال : ‘ لا إله إلا أنت سبحانك اللهم أستغفرك لذنبي ، وأسألك رحمتك ، اللهم زدني علماً ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، وهب لي من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب ‘ .

 

وكان إذا انتبه من نومه قال : الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ‘ ثم يتسوك ، وربما قرأ عشر الآيات من آخر سورة ( آل عمران ) من قوله : 
 إن في خلق السماوات والأرض
 ثم يتطهر ، ثم يصلي ركعتين خفيفتين ، وأمر بذلك في حديث أبي هريرة . 
 
وكان يقوم إذا انتصف الليل ، أو قبله بقليل ، أو بعده بقليل ، وكان يقطع ورده تارة ، ويصله تارة ، وهو الأكثر ، فتقطيعه كما قال ابن عباس : إنه بعد ما صلى ركعتين انصرف ، فنام ، فعل ذلك ثلاث مرات في ست ركعات ، كل ذلك يستاك ويتوضأ ثم أوتر بثلاث . 
 
 وكان وتره أنواعاً ، منها : هذا ، ومنها : أن يصلي ثماني ركعات يسلم بعد كل ركعتين ، ثم يوتر بخمس سرداً متواليات ، لا يجلس إلا في آخرهن ، 
 
ومنها : تسع ركعات يسرد منهن ثمانياً ، لا يجلس إلا في الثامنة ، يجلس فيذكر الله ، ويحمده ، ويدعوه ، ثم ينهض ولا يسلم ، ثم يصلي التاسعة ، ثم يقعد فيتشهد ويسلم ، ثم يصلي بعدها ركعتين بعد ما يسلم . 
 
ومنها أن يصلي سبعاً ، كالتسع المذكورة ، ثم يصلي بعدها ركعتين جالساً . 
 
ومنها : أن يصلي مثنى مثنى ، ثم يوتر بثلاث لا يفصل بينهن ، فهذا رواه أحمد ، عن عائشة ، أنه : كان يؤتر بثلاث لا فصل فيهن .
 
 وفيه نظر ، ففي ‘ صحيح ابن حبان ‘ عن أبي هريرة مرفوعاً : ‘ لا توتروا بثلاث ، أوتروا بخمسٍ أو سبع ، ولا تشبهوا بصلاة المغرب ‘ قال الدارقطني وإسناده كلهم ثقات . 
 
قال حرب : سئل أحمد عن الوتر ؟ قال : يسلم في الركعتين ، وإن لم يسلم ، رجوت ألا يضرَّه ، إلا أن التسليم أثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال في رواية أبي طالب : أكثر الحديث وأقواه ركعة ، فأنا أذهب إليها . 
 
 ومنها ما رواه النسائي ، عن حذيفة أنه : صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة رمضان ، فركع ، فقال في ركوعه : ‘ سبحان ربي العظيم ‘ مثل ما كان قائماً ، الحديث . وفيه : فما صلى إلا أربع ركعات ، حتى جاء بلال يدعوه إلى الغداة . وأوتر أول الليل ووسطه ، وآخره ، وقام ليلة بآية يتلوها ، ويردّدها حتى الصباح ! 2 < إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم > 2 ! ‘ المائدة : 118 ‘ . |
 
وكانت صلاته بالليل ثلاثة أنواع :
 
 أحدها : وهو أكثرها ، صلاته قائماً .
 
 الثاني : أنه كان يصلي قاعداً . 
 
الثالث : أنه كان يقرأ قاعداً ، فإذا بقي يسير من قراءته قام فركع قائماً ، وثبت عنه أنه كان يصلي ركعتين بعد الوتر جالساً تارة ، وتارة يقرأ فيهما جالساً ، فإذا أراد أن يركع قام فركع . 
 
وقد أشكل هذا على كثير ، وظنوه معارضاً لقوله : اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً ‘ قال أحمد : لا أفعله ولا أمنع من فعله ، قال : وأنكره مالك . والصواب أن الوتر عبادة مستقلة . فتجري الركعتان بعده مجرى سنّة المغرب من المغرب ، فهما تكميل للوتر . 
 
ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الوتر ، إلا في حديث رواه ابن ماجة ، قال أحمد : ليس يروى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ، ولكن كان عمر يقنت من السّنة إلى السنة .

 

وروى أهل ‘ السنن ‘ حديث الحسن بن علي ، وقال الترمذي : حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي الحوراء السعدي انتهى ، والقنوت في الوتر محفوظ عن عمر ، وأبيّ ، وابن مسعود . 
 
وذكر أبو داود والنسائي ، من حديث أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان يقرأ في الوتر ب ( سبح اسم ربك الأعلى ) و ( قل يا أيها الكافرون ) و ( قل هو الله أحد ) فإذا سلّم قال : ‘ سبحان الملكِ القدُّوس ‘ ثلاث مرات يمد صوته في الثالثة ويرفع . 
 
 وكان صلى الله عليه وسلم يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها ، والمقصود من القرآن تدبره وتفهمه ، والعمل به . وتلاوته ، وحفظه وسيلة إلى معانيه ، كما قال بعض السلف : أنزل القرآن ليعمل به ، فاتخذوا تلاوته عملاً . 
 
قال شعبة : حدثنا أبو جمرة قال : قلت لابن عباس : إني رجل سريع القراءة ، وربما قرأت القرآن في الليلة مرة أو مرتين .
 
 قال ابن عباس رضي الله عنهما : لأن أقرأ سورة واحدة ، أعجب إليَّ من أن أفعل ذلك الذي تفعل ، فإن كنت فاعلاً لا بد ، فاقرأ قراءة تسمع أذنيك ، ويعيه قلبك . وقال إبراهيم : قرأ علقمة على عبد الله ، فقال : رتل فداك أبي وأُمي ، فإنه زين القرآن . 
 
وقال عبد الله : لا تهذُّوا القرآن هذَّ الشعر ، ولا تنثروه نثر الدّقل ، وقفوا عند عجائبه ، وحرِّكوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة . 
 
وقال : إذا سمعت الله يقول :
 يا أيها الذين آمنوا 
 فاصغ لها سمعك ، فإنه خيرٌ تؤمرُ به ، أو شر تصرف عنه . 
 
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى : دخلت عليَّ امرأة وأنا أقرأ ( سورة هود ) فقالت لي : يا عبد الرحمن هكذا تقرأ سورة هود ؟ ! والله إني فيها منذ ستةِ أشهر وما فرغت من قراءتها . 
 
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرّ بالقرآن في صلاة الليل تارة ، ويجهر تارة ، ويطيل القيام تارة ، ويخففه تارة ، وكان يصلي التطوع بالليل والنهار على راحلته في السفر ، قِبَل أيِّ وجه توجهت به ، فيركع ويسجد عليها إيماء ، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه .

 

( فصل )

روى البخاري في ‘ صحيحه ‘ عن عائشة قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى وإني لأسبِّحها . 
 
وفي ‘ الصحيحين ‘ عن أبي هريرة قال : أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وركعتي الضحى ، وأن أوتر قبل أن أرقد . 
 
ولمسلم عن زيد بن أرقم مرفوعاً : ‘ صلاة الأوّابين حين ترمض الفصال ‘ ، أي : يشتد حرّ النهار ، فتجد الفصال حر الرمضاء ، فقد أوصى بها ، وكان يستغني عنها بقيام الليل . 
 
قال مسروق : كنا نصلي في المسجد ، فنبقى بعد قيام ابن مسعود ، ثم نقوم فنصلي الضحى ، فبلغه ، فقال : لِمَ تحملون عباد الله ما لم يحملهُم الله ؟ إن كنتم لا بد فاعلين ففي بيوتكم . وقال سعيد بن جبير : إني لأدع صلاة الضحى وأنا أشتهيها ، مخافة أن أراها حتماً عليَّ . 
 
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه ، سجود الشكر عند تجدد نعمة تسرّ ، أو اندفاع نقمة ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا مرّ بآية سجدةٍ كبّر وسجد ، وربما قال في سجوده : ‘ سجدَ وجهي للذي خلقه وصوَّره ، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته ‘ ولم ينقل عنه أنه كان يكبر للرفع من هذا السجود ، ولا تشهد ، ولا سلّم ألبتة . 
 
وصحّ عنه أنه سجد في ( ألم تنزيل ) وفي ( ص ) وفي ( إقرأ ) وفي ( النجم ) وفي ( إذا السماء انشقت ) وذكر أبو داود ، عن عمرو بن العاص ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة ، منها ثلاث في المفصّل ، وفي ( سورة الحج ) سجدتين . 
 
وأما حديث ابن عباس ، أنه صلى الله عليه وسلم لم يسجد في المفصّل منذ تحوّل إلى المدينة ، فهو حديث ضعيف ، في إسناده أبو قدامة الحارث بن عبيد ، ولا يحتج بحديثه ، وأعلّه ابن القطان بمطر الوراق ، وقال : كان يشبه في سوء الحفظ ، محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وعيب على مسلم إخراج حديثه . انتهى . 
 
ولا عيبَ على مسلم في إخراج حديثه لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه ، كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه ، فمن الناس من صحح جميع أحاديث هؤلاء الثقات ، ومنهم من ضعف جميع حديث السيء الحفظ ، فالأولى طريقة الحاكم وأمثاله ، والثانية طريقة ابن حزم وأشكاله ، وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *