كتاب الطب النبوي لابن القيم
[القسم الثاني وهو] فُصُولٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعِلَاجِ بِالْأَدْوِيَةِ الرُّوحَانِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُفْرَدَةِ، وَالْمُرَكَّبَةِ مِنْهَا، وَمِنَ الْأَدْوِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُقْيَةِ الْحَيَّةِ
قَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: «لَا رُقْيَةَ إِلَّا فِي عَيْنٍ، أَوْ حُمَةٍ» «2» ، الْحُمَةُ: بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِهَا.
وَفِي «سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ» مِنْ حَدِيثِ عائشة: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّقْيَةِ مِنَ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ «3» .
وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ قَالَ: لَدَغَ بَعْضَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَّةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ مِنْ رَاقٍ؟»
فقالوا: يا رسول الله! إن آل حزم كانوا يرون رُقْيَةَ الْحَيَّةِ، فَلَمَّا نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى تَرَكُوهَا،
فقال: «ادعو عمارة بن حزم» ، فَدَعَوْهُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ رُقَاهُ، فَقَالَ: «لَا بَأْسَ بِهَا» فَأَذِنَ لَهُ فِيهَا فرقاه «1» .
(1) أخرجه أبو داود وأحمد
(2) الحمة: بضم الحاء وتخفيف الميم هم السم، والمراد بها ذوات السموم.
(3) أخرجه ابن ماجه في الطب.
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُقْيَةِ الْقَرْحَةِ وَالْجُرْحِ
أَخْرَجَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عائشة قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اشْتَكَى الْإِنْسَانُ أَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ، قَالَ بِأُصْبُعِهِ: هَكَذَا وَوَضَعَ سُفْيَانُ سَبَّابَتَهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَهَا، وَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا» «1» .
هَذَا مِنَ الْعِلَاجِ الْمُيَسَّرِ النَّافِعِ الْمُرَكَّبِ، وَهِيَ مُعَالَجَةٌ لَطِيفَةٌ يُعَالَجُ بِهَا الْقُرُوحُ وَالْجِرَاحَاتُ الطَّرِيَّةُ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهَا مِنَ الْأَدْوِيَةِ إِذْ كَانَتْ مَوْجُودَةً بِكُلِّ أَرْضٍ،
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ طَبِيعَةَ التُّرَابِ الْخَالِصِ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ مُجَفَّفَةٌ لِرُطُوبَاتِ الْقُرُوحِ وَالْجِرَاحَاتِ الَّتِي تَمْنَعُ الطَّبِيعَةُ مِنْ جَوْدَةِ فِعْلِهَا، وَسُرْعَةِ انْدِمَالِهَا، لَا سِيَّمَا فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ، وَأَصْحَابِ الْأَمْزِجَةِ الْحَارَّةِ،
فَإِنَّ الْقُرُوحَ وَالْجِرَاحَاتِ يَتْبَعُهَا فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ سُوءُ مِزَاجٍ حَارٍّ، فَيَجْتَمِعُ حَرَارَةُ الْبَلَدِ وَالْمِزَاجُ وَالْجِرَاحُ،
وَطَبِيعَةُ التُّرَابِ الْخَالِصِ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ أَشَدُّ مِنْ بُرُودَةِ جَمِيعِ الْأَدْوِيَةِ الْمُفْرَدَةِ الْبَارِدَةِ، فَتُقَابِلُ بُرُودَةُ التُّرَابِ حَرَارَةَ الْمَرَضِ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ التُّرَابُ قَدْ غُسِلَ وَجُفِّفَ،
وَيَتْبَعُهَا أَيْضًا كَثْرَةُ الرُّطُوبَاتِ الرَّدِيئَةِ، وَالسَّيَلَانُ، وَالتُّرَابُ مُجَفِّفٌ لَهَا، مُزِيلٌ لِشِدَّةِ يُبْسِهِ وَتَجْفِيفِهِ لِلرُّطُوبَةِ الرَّدِيئَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ بَرْئِهَا
، وَيَحْصُلُ بِهِ- مَعَ ذَلِكَ- تَعْدِيلُ مِزَاجِ الْعُضْوِ الْعَلِيلِ، وَمَتَى اعْتَدَلَ مِزَاجُ الْعُضْوِ قَوِيَتْ قُوَاهُ الْمُدَبِّرَةُ، وَدَفَعَتْ عَنْهُ الألم بإذن الله.
(1) ذكره الحافظ في الإصابة، ورواه البخاري في «التاريخ الصغير» باسناد جيد، وأخرجه مسلم في صحيحه. أخرجه البخاري في الطب، ومسلم في السلام، وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد. قال بأصبعه: العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال.
وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ رِيقِ نَفْسِهِ عَلَى أُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ، ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَى التُّرَابِ، فَيَعْلَقُ بِهَا مِنْهُ شَيْءٌ، فَيَمْسَحُ بِهِ عَلَى الْجُرْحِ، وَيَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ لِمَا فِيهِ مِنْ بَرَكَةِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ، وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَيَنْضَمُّ أَحَدُ الْعِلَاجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، فَيَقْوَى التَّأْثِيرُ.
وَهَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «تُرْبَةُ أَرْضِنَا» جَمِيعُ الْأَرْضِ أَوْ أَرْضُ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مِنَ التُّرْبَةِ مَا تَكُونُ فِيهِ خَاصِّيَّةٌ يَنْفَعُ بِخَاصِّيَّتِهِ مِنْ أَدْوَاءٍ كثرة، ويشفي بها أَسْقَامًا رَدِيئَةً.
قَالَ جالينوس: رَأَيْتُ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مَطْحُولِينَ، وَمُسْتَسْقِينَ، كَثِيرًا يَسْتَعْمِلُونَ طِينَ مِصْرَ، وَيَطْلُونَ بِهِ عَلَى سُوقِهِمْ، وَأَفْخَاذِهِمْ، وَسَوَاعِدِهِمْ، وَظُهُورِهِمْ، وَأَضْلَاعِهِمْ، فَيَنْتَفِعُونَ بِهِ مَنْفَعَةً بَيِّنَةً.
قَالَ: وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ فَقَدْ يَنْفَعُ هَذَا الطِّلَاءُ لِلْأَوْرَامِ الْعَفِنَةِ وَالْمُتَرَهِّلَةِ الرَّخْوَةِ، قَالَ: وَإِنِّي لَأَعْرِفُ قَوْمًا تَرَهَّلَتْ أَبْدَانُهُمْ كُلُّهَا مِنْ كَثْرَةِ اسْتِفْرَاغِ الدَّمِ مِنْ أَسْفَلَ، انْتَفَعُوا بِهَذَا الطِّينِ نَفْعًا بَيِّنًا، وَقَوْمًا آخَرِينَ شَفَوْا بِهِ أَوْجَاعًا مُزْمِنَةً كَانَتْ مُتَمَكِّنَةً فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ تَمَكُّنًا شَدِيدًا، فَبَرَأَتْ وَذَهَبَتْ أَصْلًا.
وَقَالَ صَاحِبُ الْكِتَابِ الْمَسِيحِيِّ: قُوَّةُ الطِّينِ الْمَجْلُوبِ مِنْ كُنُوسَ- وَهِيَ جَزِيرَةُ الْمَصْطَكَى- قُوَّةٌ تَجْلُو وَتَغْسِلُ، وَتُنْبِتُ اللَّحْمَ فِي الْقُرُوحِ، وَتَخْتِمُ الْقُرُوحَ. انْتَهَى.
وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي هَذِهِ التُّرْبَاتِ، فَمَا الظَّنُّ بِأَطْيَبِ تُرْبَةٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَأَبْرَكِهَا، وَقَدْ خَالَطَتْ رِيقَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَارَنَتْ رُقْيَتَهُ بِاسْمِ رَبِّهِ، وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ قُوَى الرُّقْيَةِ وَتَأْثِيرَهَا بِحَسَبِ الرَّاقِي، وَانْفِعَالِ الْمَرْقِيِّ عَنْ رُقْيَتِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ طَبِيبٌ فَاضِلٌ عَاقِلٌ مُسْلِمٌ، فَإِنِ انْتَفَى أَحَدُ الْأَوْصَافِ، فَلْيَقُلْ ما شاء.
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِلَاجِ الْوَجَعِ بِالرُّقْيَةِ
رَوَى مسلم فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، أَنَّهُ شَكَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ وَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ ثَلَاثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ
مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ» «1» فَفِي هَذَا الْعِلَاجِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالتَّفْوِيضِ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ بِعِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ الْأَلَمِ مَا يَذْهَبُ بِهِ، وَتَكْرَارُهُ لِيَكُونَ أَنْجَعَ وَأَبْلَغَ، كَتَكْرَارِ الدَّوَاءِ لِأَخْرَاجِ الْمَادَّةِ، وَفِي السَّبْعِ خَاصِّيَّةٌ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا، وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» :
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ، يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، أَذْهِبِ الْبَاسَ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» «2» .
فَفِي هَذِهِ الرُّقْيَةِ تَوَسُّلٌ إِلَى اللَّهِ بِكَمَالِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَكَمَالِ رَحْمَتِهِ بِالشِّفَاءِ، وَأَنَّهُ وَحْدَهُ الشَّافِي، وَأَنَّهُ لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُهُ، فَتَضَمَّنَتِ التَّوَسُّلَ إِلَيْهِ بِتَوْحِيدِهِ وَإِحْسَانِهِ وربوبيته.
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِلَاجِ حَرِّ الْمُصِيبَةِ وَحُزْنِهَا
قَالَ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ «3» .
وَفِي «الْمُسْنَدِ» عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَجَارَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ، وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا» «4»
وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ مِنْ أَبْلَغِ عِلَاجِ الْمُصَابِ، وَأَنْفَعِهِ لَهُ فِي عَاجِلَتِهِ وَآجِلَتِهِ، فَإِنَّهَا تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتها تَسَلَّى عَنْ مُصِيبَتِهِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ وَأَهْلَهُ وماله ملك لله عزوجلّ حَقِيقَةً، وَقَدْ جَعَلَهُ عِنْدَ الْعَبْدِ عَارِيَةً، فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْهُ، فَهُوَ كَالْمُعِيرِ يَأْخُذُ مَتَاعَهُ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَحْفُوفٌ بِعَدَمَيْنِ: عَدَمٍ قَبْلَهُ، وَعَدَمٍ بَعْدَهُ، وَمِلْكُ الْعَبْدِ لَهُ مُتْعَةٌ مُعَارَةٌ في زمن يَسِيرٍ،
(1) أخرجه مسلم في السلام. وأخرجه ابن ماجه وأحمد والطبراني.
(2) أخرجه البخاري في الطب، ومسلم في السلام
(3) البقرة. آية 155.
(4) أخرجه أحمد ومسلم في الجنائز
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ الَّذِي أَوْجَدَهُ عَنْ عَدَمِهِ، حَتَّى يَكُونَ مِلْكُهُ حَقِيقَةً، وَلَا هُوَ الَّذِي يَحْفَظُهُ مِنَ الْآفَاتِ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَلَا يُبْقِي عَلَيْهِ وُجُودَهُ، فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ تَأْثِيرٌ، وَلَا مِلْكٌ حَقِيقِيٌّ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ بِالْأَمْرِ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ الْمَأْمُورِ الْمَنْهِيِّ، لَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ، وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ لَهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فِيهِ إِلَّا مَا وَافَقَ أَمْرَ مَالِكِهِ الْحَقِيقِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَصِيرَ الْعَبْدِ وَمَرْجِعَهُ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُ الْحَقِّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُخَلِّفَ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَيَجِيءَ رَبَّهُ فَرْدًا كَمَا خَلَقَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عَشِيرَةٍ، وَلَكِنْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ،
فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ بِدَايَةَ الْعَبْدِ وَمَا خُوِّلَهُ وَنِهَايَتَهُ، فَكَيْفَ يَفْرَحُ بِمَوْجُودٍ، أَوْ يَأْسَى عَلَى مَفْقُودٍ، فَفِكْرُهُ فِي مَبْدَئِهِ وَمَعَادِهِ مِنْ أَعْظَمِ عِلَاجِ هَذَا الدَّاءِ،
وَمِنْ عِلَاجِهِ أَنْ يَعْلَمَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. قَالَ تَعَالَى: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ «1»
وَمِنْ عِلَاجِهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا أُصِيبَ بِهِ، فَيَجِدُ رَبَّهُ قَدْ أَبْقَى عَلَيْهِ مِثْلَهُ، أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَادَّخَرَ لَهُ- إِنْ صَبَرَ وَرَضِيَ- مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ فَوَاتِ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَهَا أعظم مما هي.
ومن علاجه أن يطفىء نَارَ مُصِيبَتِهِ بِبَرْدِ التَّأَسِّي بِأَهْلِ الْمَصَائِبِ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّهُ فِي كُلِّ وَادٍ بَنُو سَعْدٍ [1] ، وَلْيَنْظُرْ يَمْنَةً، فَهَلْ يَرَى إِلَّا مِحْنَةً؟ ثُمَّ لِيَعْطِفْ يَسْرَةً، فَهَلْ يَرَى إِلَّا حَسْرَةً؟ [2] ،
وَأَنَّهُ لَوْ فتش العالم لم يرفيهم إِلَّا مُبْتَلًى، إِمَّا بِفَوَاتِ مَحْبُوبٍ، أَوْ حُصُولِ مَكْرُوهٍ، وَأَنَّ شُرُورَ الدُّنْيَا أَحْلَامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ، إِنْ أَضْحَكَتْ قَلِيلًا، أَبْكَتْ كَثِيرًا، وَإِنْ سَرَّتْ يَوْمًا، سَاءَتْ دَهْرًا، وَإِنْ مَتَّعَتْ قَلِيلًا، مَنَعَتْ طَوِيلًا،
وَمَا مَلَأَتْ دَارًا خِيرَةً إِلَّا مَلَأَتْهَا عَبْرَةً، وَلَا سَرَّتْهُ بِيَوْمِ سُرُورٍ إِلَّا خَبَّأَتْ لَهُ يَوْمَ شُرُورٍ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: لِكُلِّ فَرْحَةٍ تَرْحَةٌ، وما ملىء بيت فرحا إلا ملىء تَرَحًا. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: مَا كَانَ ضَحِكٌ قَطُّ إِلَّا كَانَ مِنْ بَعْدِهِ بُكَاءٌ.
وَقَالَتْ هند بنت النعمان: لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَنَحْنُ مِنْ أَعَزِّ النَّاسِ وَأَشَدِّهِمْ مُلْكًا، ثُمَّ لَمْ تَغِبِ الشَّمْسُ حَتَّى رَأَيْتُنَا وَنَحْنُ أَقَلُّ النَّاسِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَلَّا يَمْلَأَ دَارًا خِيرَةً إلا ملأها عبرة.
(1) الحديد- 22-
وَسَأَلَهَا رَجُلٌ أَنْ تُحَدِّثَهُ عَنْ أَمْرِهَا، فَقَالَتْ؛ أَصْبَحْنَا ذَا صَبَاحٍ، وَمَا فِي الْعَرَبِ أَحَدٌ إِلَّا يَرْجُونَا، ثُمَّ أَمْسَيْنَا وَمَا فِي الْعَرَبِ أَحَدٌ إِلَّا يَرْحَمُنَا.
وَبَكَتْ أُخْتُهَا حرقة بنت النعمان يوما، وهي في غزها، فَقِيلَ لَهَا: مَا يُبْكِيكِ، لَعَلَّ أَحَدًا آذَاكِ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ رَأَيْتُ غَضَارَةً [1] فِي أَهْلِي، وَقَلَّمَا امْتَلَأَتْ دَارٌ سُرُورًا إِلَّا امْتَلَأَتْ حُزْنًا.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ طَلْحَةَ: دَخَلْتُ عَلَيْهَا يَوْمًا، فَقُلْتُ لَهَا: كَيْفَ رَأَيْتِ عَبَرَاتِ الْمُلُوكِ؟ فَقَالَتْ: مَا نَحْنُ فِيهِ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِمَّا كُنَّا فِيهِ الْأَمْسَ، إِنَّا نَجِدُ فِي الْكُتُبِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَعِيشُونَ فِي خِيرَةٍ إِلَّا سَيُعْقَبُونَ بَعْدَهَا عَبْرَةً، وَأَنَّ الدَّهْرَ لَمْ يَظْهَرْ لِقَوْمٍ بِيَوْمٍ يُحِبُّونَهُ إِلَّا بَطَنَ لَهُمْ بِيَوْمٍ يَكْرَهُونَهُ، ثُمَّ قَالَتْ:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا … إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
فَأُفٍّ لِدُنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا … تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ
[2] وَمِنْ عِلَاجِهَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْجَزَعَ لَا يَرُدُّهَا، بَلْ يُضَاعِفُهَا، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ تَزَايُدِ الْمَرَضِ.
وَمِنْ عِلَاجِهَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فَوْتَ ثَوَابِ الصَّبْرِ وَالتَّسْلِيمَ، وَهُوَ الصَّلَاةُ وَالرَّحْمَةُ وَالْهِدَايَةُ الَّتِي ضَمِنَهَا اللَّهُ عَلَى الصَّبْرِ، وَالِاسْتِرْجَاعِ أَعْظَمُ مِنَ الْمُصِيبَةِ فِي الْحَقِيقَةِ.
ومن علاجها أن يعلم أن الجزع بشمت عَدُوَّهُ، وَيَسُوءُ صَدِيقَهُ، وَيُغْضِبُ رَبَّهُ، وَيَسُرُّ شَيْطَانَهُ، وَيُحْبِطُ أَجْرَهُ، وَيُضْعِفُ نَفْسَهُ،
وَإِذَا صَبَرَ وَاحْتَسَبَ أَنْضَى شَيْطَانَهُ، وَرَدَّهُ خَاسِئًا، وَأَرْضَى رَبَّهُ، وَسَرَّ صَدِيقَهُ، وَسَاءَ عَدُوَّهُ، وَحَمَلَ عَنْ إِخْوَانِهِ، وَعَزَّاهُمْ هُوَ قَبْلَ أَنْ يُعَزُّوهُ، فَهَذَا هُوَ الثَّبَاتُ وَالْكَمَالُ الْأَعْظَمُ، لَا لَطْمُ الْخُدُودِ، وَشَقُّ الْجُيُوبِ، وَالدُّعَاءُ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، وَالسُّخْطُ عَلَى الْمَقْدُورِ.
وَمِنْ عِلَاجِهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَا يُعْقِبُهُ الصَّبْرُ وَالِاحْتِسَابُ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْمَسَرَّةِ أَضْعَافُ مَا كَانَ يَحْصُلُ لَهُ بِبَقَاءِ مَا أُصِيبَ بِهِ لَوْ بَقِيَ عَلَيْهِ،
وَيَكْفِيهِ مِنْ ذَلِكَ بَيْتُ الْحَمْدِ الذي يا بنى لَهُ فِي الْجَنَّةِ عَلَى حَمْدِهِ لِرَبِّهِ وَاسْتِرْجَاعِهِ،
فَلْيَنْظُرْ: أَيُّ الْمُصِيبَتَيْنِ أَعْظَمُ؟: مُصِيبَةُ الْعَاجِلَةِ، أَوْ مُصِيبَةُ فَوَاتِ بَيْتِ الْحَمْدِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ. وفي
الترمذي مَرْفُوعًا: «يَوَدُّ نَاسٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في التدنيا لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ الْبَلَاءِ» «1» .
وَقَالَ بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مَفَالِيسَ.
وَمِنْ عِلَاجِهَا: أَنْ يُرَوِّحَ قَلْبَهُ بِرُوحِ رَجَاءِ الْخَلَفِ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عِوَضٌ إِلَّا اللَّهَ، فَمَا مِنْهُ عِوَضٌ كَمَا قِيلَ:
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضٌ … وَمَا مِنَ اللَّهِ إِنْ ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ
وَمِنْ عِلَاجِهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ حَظَّهُ مِنَ الْمُصِيبَةِ مَا تُحْدِثُهُ لَهُ، فَمَنْ رَضِيَ، فَلَهُ الرِّضَى، وَمَنْ سَخِطَ، فَلَهُ السُّخْطُ، فَحَظُّكَ مِنْهَا مَا أَحْدَثَتْهُ لَكَ، فَاخْتَرْ خَيْرَ الْحُظُوظِ أَوْ شَرَّهَا، فَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ سُخْطًا وَكُفْرًا، كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْهَالِكِينَ،
وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ جَزَعًا وَتَفْرِيطًا فِي تَرْكِ وَاجِبٍ، أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ، كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْمُفَرِّطِينَ،
وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ شِكَايَةً، وَعَدَمَ صَبْرٍ، كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْمَغْبُونِينَ،
وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ اعْتِرَاضًا عَلَى اللَّهِ، وَقَدْحًا فِي حِكْمَتِهِ، فَقَدْ قَرَعَ بَابَ الزَّنْدَقَةِ أَوْ وَلَجَهُ،
وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ صَبْرًا وَثَبَاتًا لِلَّهِ، كُتِبَ فِي دِيوَانِ الصَّابِرِينَ،
وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ الرِّضَى عَنِ اللَّهِ، كُتِبَ فِي دِيوَانِ الرَّاضِينَ،
وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ، كُتِبَ فِي دِيوَانِ الشَّاكِرِينَ، وَكَانَ تَحْتَ لِوَاءِ الْحَمْدِ مَعَ الْحَمَّادِينَ،
وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ مَحَبَّةً وَاشْتِيَاقًا إِلَى لِقَاءِ رَبِّهِ، كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْمُحِبِّينَ الْمُخْلِصِينَ.
وَفِي «مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ» وَالتِّرْمِذِيِّ، مِنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ يَرْفَعُهُ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمُ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَى، ومن سخط فله السّخط» . زاد «وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَعُ» «2» .
وَمِنْ عِلَاجِهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ وَإِنْ بَلَغَ فِي الْجَزَعِ غَايَتَهُ، فَآخِرُ أَمْرِهِ إِلَى صَبْرِ الِاضْطِرَارِ، وَهُوَ غَيْرُ مَحْمُودٍ وَلَا مُثَابٍ، قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْعَاقِلُ يفعل في أوّل يَوْمٍ مِنَ الْمُصِيبَةِ مَا يَفْعَلُهُ الْجَاهِلُ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ صَبْرَ الْكِرَامِ، سَلَا سُلُوَّ الْبَهَائِمِ.
(1) أخرجه الترمذي في باب الزهد.
(2) أخرجه أحمد في المسند، وهو حديث صحيح.
وَفِي «الصَّحِيحِ» مَرْفُوعًا: «الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» «1» .
وَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: إِنَّكَ إِنْ صَبَرْتَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَإِلَّا سَلَوْتَ سُلُوَّ الْبَهَائِمِ.
وَمِنْ عِلَاجِهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَنْفَعَ الْأَدْوِيَةِ لَهُ مُوَافَقَةُ رَبِّهِ وَإِلَهِهِ فِيمَا أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ لَهُ، وَأَنَّ خَاصِّيَّةَ الْمَحَبَّةِ وَسِرَّهَا مُوَافَقَةُ الْمَحْبُوبِ، فَمَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ مَحْبُوبٍ، ثُمَّ سَخِطَ مَا يُحِبُّهُ، وَأَحَبَّ مَا يَسْخَطُهُ، فَقَدْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِكَذِبِهِ، وَتَمَقَّتَ إِلَى مَحْبُوبِهِ.
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى قَضَاءً، أحب أن يرضى به، وكان عمران ابن حُصَيْنٍ يَقُولُ فِي عِلَّتِهِ: أَحَبُّهُ إِلَيَّ أَحَبُّهُ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أبو العالية.
وَهَذَا دَوَاءٌ وَعِلَاجٌ لَا يَعْمَلُ إِلَّا مَعَ الْمُحِبِّينَ، وَلَا يُمْكِنُ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَتَعَالَجَ بِهِ.
وَمِنْ علاجها: أن يوازن بين أعظم اللذتين والتمتعين، وَأَدْوَمِهِمَا: لَذَّةِ تَمَتُّعِهِ بِمَا أُصِيبَ بِهِ، وَلَذَّةِ تَمَتُّعِهِ بِثَوَابِ اللَّهِ لَهُ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ الرُّجْحَانُ، فَآثَرَ الرَّاجِحَ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَى تَوْفِيقِهِ، وَإِنْ آثَرَ الْمَرْجُوحَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ مُصِيبَتَهُ فِي عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ وَدِينِهِ أَعْظَمُ مِنْ مُصِيبَتِهِ الَّتِي أُصِيبَ بِهَا فِي دُنْيَاهُ.
وَمِنْ عِلَاجِهَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الَّذِي ابْتَلَاهُ بِهَا أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِ الْبَلَاءَ لِيُهْلِكَهُ بِهِ، وَلَا لِيُعَذِّبَهُ بِهِ، وَلَا لِيَجْتَاحَهُ، وَإِنَّمَا افْتَقَدَهُ بِهِ لِيَمْتَحِنَ صَبْرَهُ وَرِضَاهُ عَنْهُ وَإِيمَانَهُ، وَلِيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ وَابْتِهَالَهُ، وَلِيَرَاهُ طَرِيحًا بِبَابِهِ، لَائِذًا بِجَنَابِهِ، مَكْسُورَ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيْهِ، رَافِعًا قَصَصَ الشَّكْوَى إِلَيْهِ.
قَالَ الشيخ عبد القادر: يَا بُنَيَّ! إِنَّ المصيبة ما جاءت لتهلك، وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِتَمْتَحِنَ صَبْرَكَ وَإِيمَانَكَ، يَا بُنَيَّ! الْقَدَرُ سَبُعٌ، وَالسَّبُعُ لَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْمُصِيبَةَ كِيرُ الْعَبْدِ الَّذِي يُسْبَكُ بِهِ حَاصِلُهُ، فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ ذَهَبًا أَحْمَرَ، وَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ خَبَثًا كُلُّهُ، كَمَا قِيلَ:
سَبَكْنَاهُ وَنَحْسِبُهُ لُجَيْنًا … فَأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ
(1) أخرجه البخاري في الجنائز، ومسلم في الجنائز.
فَإِنْ لَمْ يَنْفَعْهُ هَذَا الْكِيرُ فِي الدُّنْيَا، فَبَيْنَ يَدَيْهِ الْكِيرُ الْأَعْظَمُ، فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ إِدْخَالَهُ كِيرَ الدُّنْيَا وَمَسْبَكَهَا خَيْرٌ لَهُ من ذلك الكير والمسبك، وأنه لابد مِنْ أَحَدِ الْكِيرَيْنِ، فَلْيَعْلَمْ قَدْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الْكِيرِ الْعَاجِلِ.
وَمِنْ عِلَاجِهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَوْلَا مِحَنُ الدُّنْيَا وَمَصَائِبُهَا، لَأَصَابَ الْعَبْدَ مِنْ أَدْوَاءِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالْفَرْعَنَةِ وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ مَا هُوَ سَبَبُ هَلَاكِهِ عَاجِلًا وَآجِلًا، فَمِنْ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ أَنْ يَتَفَقَّدَهُ فِي الْأَحْيَانِ بِأَنْوَاعٍ مِنْ أَدْوِيَةِ الْمَصَائِبِ، تَكُونُ حَمِيَّةً لَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَدْوَاءِ، وَحِفْظًا لِصِحَّةِ عُبُودِيَّتِهِ، وَاسْتِفْرَاغًا لِلْمَوَادِّ الْفَاسِدَةِ الرَّدِيئَةِ الْمُهْلِكَةِ مِنْهُ، فَسُبْحَانَ مَنْ يَرْحَمُ بِبَلَائِهِ، وَيَبْتَلِي بِنَعْمَائِهِ كَمَا قِيلَ:
قد ينعم الله بِالْبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ … وَيَبْتَلِي اللَّهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ
فَلَوْلَا أَنَّهُ- سُبْحَانَهُ- يُدَاوِي عِبَادَهُ بِأَدْوِيَةِ الْمِحَنِ وَالِابْتِلَاءِ، لَطَغَوْا، وَبَغَوْا، وَعَتَوْا، وَاللَّهُ- سُبْحَانَهُ- إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا سَقَاهُ دَوَاءً مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ يَسْتَفْرِغُ بِهِ مِنَ الْأَدْوَاءِ الْمُهْلِكَةِ، حَتَّى إِذَا هَذَّبَهُ وَنَقَّاهُ وَصَفَّاهُ، أَهَّلَهُ لِأَشْرَفِ مَرَاتِبِ الدُّنْيَا، وَهِيَ عُبُودِيَّتُهُ، وَأَرْفَعِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ رُؤْيَتُهُ وَقُرْبُهُ.
وَمِنْ عِلَاجِهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَرَارَةَ الدُّنْيَا هِيَ بِعَيْنِهَا حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ، يَقْلِبُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ، وَحَلَاوَةَ الدُّنْيَا بِعَيْنِهَا مَرَارَةُ الْآخِرَةِ، وَلَأَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَرَارَةٍ مُنْقَطِعَةٍ إِلَى حَلَاوَةٍ دَائِمَةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ عَكْسِ ذَلِكَ، فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْكَ هَذَا، فَانْظُرْ إِلَى قَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» » .
وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَفَاوَتَتْ عُقُولُ الْخَلَائِقِ، وَظَهَرَتْ حَقَائِقُ الرِّجَالِ،
فَأَكْثَرُهُمْ آثَرَ الْحَلَاوَةَ الْمُنْقَطِعَةَ عَلَى الْحَلَاوَةِ الدَّائِمَةِ الَّتِي لَا تَزُولُ، وَلَمْ يَحْتَمِلْ مَرَارَةَ سَاعَةٍ لِحَلَاوَةِ الْأَبَدِ، وَلَا ذُلَّ سَاعَةٍ لِعِزِّ الْأَبَدِ، وَلَا مِحْنَةَ سَاعَةٍ لِعَافِيَةِ الْأَبَدِ،
فَإِنَّ الْحَاضِرَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، وَالْمُنْتَظَرَ غَيْبٌ، وَالْإِيمَانَ ضَعِيفٌ، وَسُلْطَانُ الشَّهْوَةِ حَاكِمٌ، فَتَوَلَّدَ مِنْ ذَلِكَ إِيثَارُ الْعَاجِلَةِ، وَرَفْضُ الْآخِرَةِ،
وَهَذَا حَالُ النَّظَرِ الْوَاقِعِ عَلَى ظواهر الأمور،
(1) أخرجه مسلم في الجنة.
وَأَوَائِلِهَا وَمَبَادِئِهَا، وَأَمَّا النَّظَرُ الثَّاقِبُ الَّذِي يَخْرِقُ حُجُبَ الْعَاجِلَةِ، وَيُجَاوِزُهُ إِلَى الْعَوَاقِبِ وَالْغَايَاتِ، فَلَهُ شَأْنٌ آخَرُ.
فَادْعُ نَفْسَكَ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَالْفَوْزِ الْأَكْبَرِ،
وَمَا أَعَدَّ لِأَهْلِ الْبِطَالَةِ وَالْإِضَاعَةِ مِنَ الْخِزْيِ وَالْعِقَابِ وَالْحَسَرَاتِ الدَّائِمَةِ،
ثُمَّ اخْتَرْ أَيُّ الْقِسْمَيْنِ أَلْيَقُ بِكَ، وَكُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَصْبُو إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ، وَمَا هُوَ الْأَوْلَى بِهِ،
وَلَا تَسْتَطِلْ هَذَا الْعِلَاجَ، فَشِدَّةُ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ مِنَ الطَّبِيبِ وَالْعَلِيلِ دَعَتْ إِلَى بَسْطِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.