فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في علاج المفؤود

فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في علاج المفؤود

رَوَى أبو داود فِي «سُنَنِهِ» مِنْ حَدِيثِ مجاهد، عَنْ سعد، قَالَ: مَرِضْتُ مَرَضًا، فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي، فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا على فؤادي، وقال لي «إنّك رجل مفؤود فَأْتِ الحارث بن كلدة مِنْ ثَقِيفٍ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ يَتَطَبَّبُ، فَلْيَأْخُذْ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةِ المدينة، فليجأهنّ بنواهنّ ثم ليلدّك بهنّ» «2» .

المفؤود: الَّذِي أُصِيبَ فُؤَادُهُ، فَهُوَ يَشْتَكِيهِ، كَالْمَبْطُونِ الَّذِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ وَاللَّدُودُ مَا يُسْقَاهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيِ الْفَمِ.

وَفِي التَّمْرِ خَاصِّيَّةٌ عَجِيبَةٌ لِهَذَا الدَّاءِ، وَلَا سِيَّمَا تَمْرَ الْمَدِينَةِ، وَلَا سيما العجوة منه.


(1) أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس
(2) أخرجه أبو داود في الطب «فليجأهن بنواهن» يريد ليرضعهن، والوجيئة: حساء يتخذ من التمر والدقيق، فيتحساه المريض

وَفِي كَوْنِهَا سَبْعًا خَاصِّيَّةٌ أُخْرَى، تُدْرَكُ بِالْوَحْيِ، وفي «الصحيحين» من حديث عامر ابن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ مِنْ تَمْرِ الْعَالِيَةِ لم يمرّه ذَلِكَ الْيَوْمَ سَمٌّ وَلَا سِحْرٌ» .

وَفِي لَفْظٍ: مَنْ أَكَلَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِمَّا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حِينَ يُصْبِحُ، لَمْ يَضُرَّهُ سَمٌّ حَتَّى يُمْسِيَ» «1» .

وَالتَّمْرُ حَارٌّ فِي الثَّانِيَةِ، يَابِسٌ فِي الْأُولَى. وَقِيلَ: رَطْبٌ فِيهَا. وَقِيلَ: مُعْتَدِلٌ، وَهُوَ غِذَاءٌ فَاضِلٌ حَافِظٌ لِلصِّحَّةِ لَا سِيَّمَا لِمَنِ اعْتَادَ الْغِذَاءَ بِهِ، كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَغْذِيَةِ فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ وَالْحَارَّةِ الَّتِي حَرَارَتُهَا فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَهُوَ لَهُمْ أَنْفَعُ مِنْهُ لِأَهْلِ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ، لِبُرُودَةِ بَوَاطِنِ سُكَّانِهَا، وَحَرَارَةِ بَوَاطِنِ سُكَّانِ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ،

وَلِذَلِكَ يُكْثِرُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالطَّائِفِ، وَمَا يَلِيهِمْ مِنَ الْبِلَادِ الْمُشَابِهَةِ لَهَا مِنَ الْأَغْذِيَةِ الْحَارَّةِ مَا لَا يَتَأَتَّى لِغَيْرِهِمْ، كَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ، وَشَاهَدْنَاهُمْ يَضَعُونَ فِي أَطْعِمَتِهِمْ مِنَ الْفُلْفُلِ وَالزَّنْجَبِيلِ فَوْقَ مَا يصنعه غَيْرُهُمْ نَحْوَ عَشَرَةِ أَضْعَافٍ أَوْ أَكْثَرَ وَيَأْكُلُونَ الزَّنْجَبِيلَ كَمَا يَأْكُلُ غَيْرُهُمُ الْحَلْوَى،

وَلَقَدْ شَاهَدْتُ مَنْ يَتَنَقَّلُ بِهِ مِنْهُمْ كَمَا يَتَنَقَّلُ بِالنَّقْلِ، وَيُوَافِقُهُمْ ذَلِكَ وَلَا يَضُرُّهُمْ لِبُرُودَةِ أَجْوَافِهِمْ وَخُرُوجِ الْحَرَارَةِ إِلَى ظَاهِرِ الْجَسَدِ، كَمَا تُشَاهَدُ مِيَاهُ الْآبَارِ تَبْرُدُ فِي الصَّيْفِ، وَتَسْخَنُ فِي الشِّتَاءِ، وَكَذَلِكَ تُنْضِجُ الْمَعِدَةُ مِنَ الْأَغْذِيَةِ الْغَلِيظَةِ فِي الشِّتَاءِ مَا لَا تُنْضِجُهُ فِي الصَّيْفِ.

وَأَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَالتَّمْرُ لَهُمْ يَكَادُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْحِنْطَةِ لِغَيْرِهِمْ، وَهُوَ قُوتُهُمْ وَمَادَّتُهُمْ، وَتَمْرُ الْعَالِيَةِ مِنْ أَجْوَدِ أَصْنَافِ تَمْرِهِمْ، فَإِنَّهُ مَتِينُ الْجِسْمِ، لَذِيذُ الطَّعْمِ، صَادِقُ الْحَلَاوَةِ، وَالتَّمْرُ يَدْخُلُ فِي الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَالْفَاكِهَةِ، وَهُوَ يُوَافِقُ أَكْثَرَ لأبدان، مُقَوٍّ لِلْحَارِّ الْغَرِيزِيِّ، وَلَا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ مِنَ الْفَضَلَاتِ الرَّدِيئَةِ مَا يَتَوَلَّدُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَغْذِيَةِ وَالْفَاكِهَةِ، بَلْ يَمْنَعُ لِمَنِ اعْتَادَهُ مِنْ تَعَفُّنِ الْأَخْلَاطِ وَفَسَادِهَا.

وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْخِطَابِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلْأَمْكِنَةِ اخْتِصَاصًا بِنَفْعِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَدْوِيَةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ دُونَ غيره، فيكون الدواء الذي يَنْبُتُ فِي هَذَا الْمَكَانِ نَافِعًا مِنَ الدَّاءِ، وَلَا يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ النَّفْعُ إِذَا نَبَتَ فِي مَكَانٍ غَيْرِهِ لِتَأْثِيرِ نَفْسِ التُّرْبَةِ أَوِ الهواء، أو هما جميعا فإن للأرض خواص وَطَبَائِعَ يُقَارِبُ اخْتِلَافُهَا اخْتِلَافَ طَبَائِعِ الْإِنْسَانِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّبَاتِ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ غِذَاءً مَأْكُولًا، وَفِي بَعْضِهَا سَمَّا قَاتِلًا، وَرُبَّ أَدْوِيَةٍ لقوم أغفية لِآخَرِينَ، وَأَدْوِيَةٍ لِقَوْمٍ مِنْ أَمْرَاضٍ هِيَ أَدْوِيَةٌ لِآخَرِينَ فِي أَمْرَاضٍ سِوَاهَا، وَأَدْوِيَةٍ لِأَهْلِ بَلَدٍ لَا تُنَاسِبُ غَيْرَهُمْ، وَلَا تَنْفَعُهُمْ.


(1) أخرجه الإمام البخاري في الأطعمة، ومسلم في الأشربة والإمام أحمد وأبو داود.

وَأَمَّا خَاصِّيَّةُ السَّبْعِ، فَإِنَّهَا قَدْ وَقَعَتْ قَدْرًا وَشَرْعًا، فَخَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ السّمَاوَاتِ سَبْعًا، وَالْأَرَضِينَ سَبْعًا، وَالْأَيَّامَ سَبْعًا، وَالْإِنْسَانُ كَمُلَ خَلْقُهُ فِي سَبْعَةِ أَطْوَارٍ، وَشَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ الطَّوَافَ سَبْعًا، وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا وَرَمْيَ الْجِمَارِ سَبْعًا سَبْعًا، وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ سَبْعًا فِي الْأُولَى وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ» «1» : «وَإِذَا صَارَ لِلْغُلَامِ سَبْعُ سِنِينَ خُيِّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ» «2» فِي رِوَايَةٍ.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «أَبُوهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ أُمِّهِ» وَفِي ثَالِثَةٍ «أُمُّهُ أَحَقُّ بِهِ» وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ أَنْ يُصَبَّ عَلَيْهِ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ «3» ، وَسَخَّرَ اللَّهُ الرِّيحَ عَلَى قَوْمِ عَادٍ سَبْعَ لَيَالٍ، وَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعِينَهُ اللَّهُ عَلَى قَوْمِهِ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ «4» ،

وَمَثَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا يُضَاعِفُ بِهِ صَدَقَةَ الْمُتَصَدِّقِ بِحَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَالسَّنَابِلُ الَّتِي رَآهَا صَاحِبُ يُوسُفَ سَبْعًا، وَالسِّنِينَ الَّتِي زَرَعُوهَا دَأَبًا سَبْعًا، وَتُضَاعَفُ الصَّدَقَةُ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِغَيْرِ حِسَابٍ سَبْعُونَ أَلْفًا.

فَلَا رَيْبَ أَنَّ لِهَذَا الْعَدَدِ خَاصِّيَّةً لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ، وَالسَّبْعَةُ جَمَعَتْ مَعَانِيَ الْعَدَدِ كُلِّهِ وَخَوَاصِّهُ، فَإِنَّ الْعَدَدَ شَفْعٌ وَوَتْرٌ وَالشَّفْعُ أَوَّلٌ وَثَانٍ. وَالْوَتْرُ: كَذَلِكَ، فَهَذِهِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ:

شَفْعٌ أَوَّلٌ، وَثَانٍ وَوَتْرٌ أَوَّلٌ وَثَانٍ، وَلَا تَجْتَمِعُ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ فِي أَقَلَّ مِنْ سَبْعَةٍ، وَهِيَ عَدَدٌ كَامِلٌ جَامِعٌ لِمَرَاتِبِ الْعَدَدِ الْأَرْبَعَةِ، أَعْنِي الشَّفْعَ وَالْوَتْرَ، وَالْأَوَائِلَ وَالثَّوَانِيَ، وَنَعْنِي بِالْوَتْرِ الْأَوَّلِ الثَّلَاثَةَ، وَبِالثَّانِي الْخَمْسَةَ، وَبِالشَّفْعِ الْأَوَّلِ الِاثْنَيْنِ، وَبِالثَّانِي الْأَرْبَعَةَ، وَلِلْأَطِبَّاءِ اعْتِنَاءٌ عَظِيمٌ بِالسَّبْعَةِ، وَلَا سِيَّمَا فِي البحارين. وقد قال بقراط: كُلُّ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، فَهُوَ مُقَدَّرٌ عَلَى سَبْعَةِ أَجْزَاءَ، وَالنُّجُومُ سَبْعَةٌ، وَالْأَيَّامُ سَبْعَةٌ، وَأَسْنَانُ النَّاسِ سَبْعَةٌ، أَوَّلُهَا طِفْلٌ إِلَى سَبْعٍ، ثُمَّ صَبِيٌّ إِلَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ، ثُمَّ مُرَاهِقٌ، ثُمَّ شَابٌّ، ثُمَّ كَهْلٌ، ثُمَّ شَيْخٌ، ثُمَّ هَرَمٌ إِلَى مُنْتَهَى الْعُمُرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحِكْمَتِهِ وَشَرْعِهِ، وَقَدْرِهِ فِي تَخْصِيصِ هَذَا الْعَدَدِ هَلْ هُوَ لِهَذَا الْمَعْنَى أَوْ لِغَيْرِهِ؟.


(1) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود بلفظ «مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها» وسنده صحيح.
(2) ثبت أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ غُلَامًا بَيْنَ أبيه وأمه» أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(3) أخرجه البخاري في المغازي
(4) أخرجه البخاري في المغازي

وَنَفَعَ هَذَا الْعَدَدُ مِنْ هَذَا التَّمْرِ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ مِنْ هَذِهِ الْبُقْعَةِ بِعَيْنِهَا مِنَ السَّمِّ وَالسِّحْرِ، بِحَيْثُ تَمْنَعُ إِصَابَتُهُ، مِنَ الْخَوَاصِّ الَّتِي لَوْ قَالَهَا بقراط وجالينوس وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَطِبَّاءِ، لَتَلَقَّاهَا عَنْهُمُ الْأَطِبَّاءُ بِالْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ وَالِانْقِيَادِ، مَعَ أَنَّ الْقَائِلَ إِنَّمَا مَعَهُ الْحَدْسُ وَالتَّخْمِينُ وَالظَّنُّ، فَمَنْ كَلَامُهُ كُلُّهُ يَقِينٌ، وَقَطْعٌ وَبُرْهَانٌ، وَوَحْيٌ أَوْلَى أَنْ تُتَلَقَّى أَقْوَالُهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ، وَتَرْكِ الِاعْتِرَاضِ. وَأَدْوِيَةُ السُّمُومِ تَارَةً تَكُونُ بِالْكَيْفِيَّةِ، وتارة تتكون بِالْخَاصِّيَّةِ كَخَوَاصِّ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْجَارِ وَالْجَوَاهِرِ وَالْيَوَاقِيتِ، والله أعلم.

فَصْلٌ

وَيَجُوزُ نَفْعُ التَّمْرِ الْمَذْكُورِ فِي بَعْضِ السُّمُومِ، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، وَيَجُوزُ نَفْعُهُ لِخَاصِّيَّةِ تِلْكَ الْبَلَدِ، وَتِلْكَ التُّرْبَةِ الْخَاصَّةِ من كل سم، ولكن ها هنا أمر لابد مِنْ بَيَانِهِ، وَهُوَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ انْتِفَاعِ الْعَلِيلِ بِالدَّوَاءِ قَبُولَهُ، وَاعْتِقَادَ النَّفْعِ بِهِ، فَتَقْبَلُهُ الطَّبِيعَةُ، فَتَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى دَفْعِ الْعِلَّةِ،

حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُعَالَجَاتِ يَنْفَعُ بِالِاعْتِقَادِ، وَحُسْنِ الْقَبُولِ، وَكَمَالِ التَّلَقِّي، وَقَدْ شَاهَدَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ عَجَائِبَ، وَهَذَا لِأَنَّ الطَّبِيعَةَ يَشْتَدُّ قَبُولُهَا لَهُ، وَتَفْرَحُ النَّفْسُ بِهِ، فَتَنْتَعِشُ الْقُوَّةُ، وَيَقْوَى سُلْطَانُ الطَّبِيعَةِ، وَيَنْبَعِثُ الْحَارٌّ الْغَرِيزِيٌّ، فَيُسَاعِدُ عَلَى دَفْعِ الْمُؤْذِي،

وَبِالْعَكْسِ يَكُونُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَدْوِيَةِ نَافِعًا لِتِلْكَ الْعِلَّةِ، فَيَقْطَعُ عَمَلَهُ سُوءُ اعْتِقَادِ الْعَلِيلِ فِيهِ، وَعَدَمُ أَخْذِ الطَّبِيعَةِ لَهُ بِالْقَبُولِ، فَلَا يُجْدِي عَلَيْهَا شَيْئًا. وَاعْتَبَرَ هَذَا بِأَعْظَمِ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَشْفِيَةِ، وَأَنْفَعِهَا لِلْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ، وَالْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، كَيْفَ لَا يَنْفَعُ الْقُلُوبَ الَّتِي لَا تَعْتَقِدُ فِيهِ الشِّفَاءَ وَالنَّفْعَ، بَلْ لَا يَزِيدُهَا إِلَّا مَرَضًا إِلَى مَرَضِهَا،

وَلَيْسَ لِشِفَاءِ الْقُلُوبِ دَوَاءٌ قَطُّ أَنْفَعُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ شِفَاؤُهَا التَّامُّ الْكَامِلُ الَّذِي لَا يُغَادِرُ فِيهَا سَقَمًا إِلَّا أَبْرَأَهُ، وَيَحْفَظُ عَلَيْهَا صِحَّتَهَا الْمُطْلَقَةَ، وَيَحْمِيهَا الْحَمِيَّةَ التَّامَّةَ مِنْ كُلِّ مُؤْذٍ ومضر،

وَمَعَ هَذَا فَإِعْرَاضُ أَكْثَرِ الْقُلُوبِ عَنْهُ، وَعَدَمُ اعتقادها الجازم الذي لا ريب فيه نه كَذَلِكَ، وَعَدَمُ اسْتِعْمَالِهِ، وَالْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى الْأَدْوِيَةِ الَّتِي رَكَّبَهَا بَنُو جِنْسِهَا حَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشِّفَاءِ بِهِ، وَغَلَبَتِ الْعَوَائِدُ، وَاشْتَدَّ الْإِعْرَاضُ، وَتَمَكَّنَتِ الْعِلَلُ وَالْأَدْوَاءُ الْمُزْمِنَةُ مِنَ الْقُلُوبِ، وَتَرَبَّى الْمَرْضَى وَالْأَطِبَّاءُ عَلَى عِلَاجِ بَنِي جِنْسِهِمْ وَمَا وَضَعَهُ لَهُمْ شُيُوخُهُمْ، وَمَنْ يُعَظِّمُونَهُ وَيُحْسِنُونَ بِهِ ظُنُونَهُمْ، فعظم المصاب، واستحكم الداء، وتركبت أمراض وعل أَعْيَا عَلَيْهِمْ عِلَاجُهَا، وَكُلَّمَا عَالَجُوهَا بِتِلْكَ الْعِلَاجَاتِ الْحَادِثَةِ تَفَاقَمَ أَمْرُهَا، وَقَوِيَتْ، وَلِسَانُ الْحَالِ يُنَادِي عَلَيْهِمْ:

وَمِنَ الْعَجَائِبِ وَالْعَجَائِبُ جَمَّةٌ … قُرْبُ الشِّفَاءِ وَمَا إِلَيْهِ وُصُولُ

كَالْعِيسِ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْتُلُهَا الظما … والماء فوق ظهورها محمول

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *