قولهم في الطفرة وقولهم في الجسم هل يتحرك بحركة مكانه

كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين

المؤلف: أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري
(المتوفى: 324هـ)


في هذه الصفحة :

9 – قولهم في الطفرة؟

واختلف الناس في الطفرة[1]:
1 – فزعم النظام أنه قد يجوز أن يكون الجسم الواحد في مكان ثم يصير إلى المكان الثالث ولم يمر بالثاني على جهة الطفرة واعتل في ذلك بأشياء منها الدوامة يتحرك أعلاها أكثر من حركة أسفلها ويقطع الحز أكثر مما يقطع أسفلها وقطبها قال: وإنما ذلك لأن أعلاها يماس أشياء لم يكن حاذى ما قبلها.
2 – وقد أنكر أكثر أهل الكلام قوله منهم أبو الهذيل وغيره وأحالوا أن يصير الجسم إلى مكان لم يمر بما قبله وقالوا: هذا محال لا يصح.
وقالوا: إن الجسم قد يسكن بعضه وأكثره متحرك وأن للفرس في حال سيره وقفات خفية وفي شدة عدوه مع وضع رجله ورفعها ولهذا كان أحد الفرسين أبطأ من صاحبه وكذلك الحجر في حال انحداره وقفات خفية بها كان أبطأ من حجر آخر أثقل منه أرسل معه وقد أنكر كثير من أهل النظر أن تكون للحجر في حال انحداره وقفات من الفلاسفة وغيرهم وقالوا أن الحجرين إذا أرسلا سبق أثقلهما لأن أخف الحجرين يعترض له من الآفات أكثر مما يعترض على الحجر الأثقل فيتحرك في جهة اليمين والشمال والقدام والخلف ويقطع الحجر الآخر في حال العوائق التي تلحق هذا الحجر في جهة الانحدار فيكون هذا أسرع.
3 – وكان الجبائي يقول: أن للحجر في حال انحداره وقفات وكان يقول أن القوس الموترة فيها حركات خفية وكذلك الحائط المبني وتلك الحركات هي التي تولد وقوع الحائط والحركات التي في القوس والوتر هي التي يتولد عنها انقطاع الوتر.

10 – قولهم في الجسم هل يتحرك بحركة مكانه؟

واختلف المتكلمون في الجسم يكون ملازماً لمكان ومكانه سائر متحرك هل الجسم الملازم لذلك المكان متحرك أم لا؟ على مقالتين:
1 – فزعم كثير من المتكلمين منهم الجبائي وغيره أن الجسم إذا كان مكانه متحركاً فهو متحرك وهذه حركة لا عن شيء وجوزوا أن يتحرك المتحرك لا عن شيء ولا إلى شيء وأن يحرك الله – سبحانه – العالم لا في شيء.
وقد كان أبو الهذيل يقول: يجوز أن يتحرك الجسم لا عن شيء ولا إلى شيء.
2 – وقال قائلون: إذا تحرك مكان الشيء والشيء لازم لمكان واحد فهو ساكن غير متحرك وأحال هؤلاء أن يتحرك المتحرك لا عن شيء ولا إلى شيء.
وكان النظام ممن يحيل أن يتحرك المتحرك لا في شيء ولا إلى شيء.

11 – هل يتحرك الجسم ضد حركة مكانه؟

واختلفوا هل يجوز أن يتحرك الشيء في حال حركة مكانه فيكون يقطع مكاناً ويتحرك إلى مكان آخر ومكانه متحرك؟ على مقالتين:
1 – فقال قائلون: لا يجوز ذلك لأنه إذا تحرك مكانه نحو بغداد فتحرك هو في ذلك الوقت نحو البصرة وجب أن يكون متحركاً في جهتين في وقت واحد وذلك محال وهؤلاء هم الذين قالوا أن الشيء إذا تحرك مكانه فهو متحرك.
2 – وقال قائلون: ذلك جائز لأنه ليس إذا تحرك مكانه كان متحركاً بل يكون مكانه متحركاً وهو ساكن.

12 – هل يكون الساكن متحركا؟

واختلف المتكلمون هل يكون الساكن في حال سكونه متحركاً على وجه من الوجوه؟ على مقالتين:
1 – فقال قائلون: لا يجوز ذلك.
2 – وقال قائلون: ذلك جائز وذلك أن الصفحة العليا من رأس ابن آدم إذا أزال الإنسان رأسه عما كان يماسه من الجو وماس شيئاً آخر فهي متحركة لمماستها شيئاً من الجو بعد شيء وهي ساكنة على الصفحة الثانية التي تحتها فهي متحركة عن شيء وساكنة على شيء آخر وهذا زعم لا يتناقض كما لا يتناقض أن تكون مماسة لشيء مفارقة لشيء آخر في وقت واحد ويتناقض أن تكون ساكنة على شيء متحركة عن ذلك الشيء في وقت واحد كما يتناقض أن تكون مماسة لشيء مفارقة لذلك الشيء في وقت واحد.

13 – هل الأجسام كلها متحركة؟

واختلفوا: هل الأجسام كلها متحركة أم كلها ساكنة أم كيف القول في ذلك؟ على مقالات:
1 – فقال النظام: الأجسام كلها متحركة[2] والحركة حركتان حركة اعتماد وحركة نقلة فهي كلها متحركة في الحقيقة وساكنة في اللغة والحركات هي الكون لا غير ذلك.

وقرأت في كتاب يضاف إليه أنه قال: لا أدري ما السكون إلا أن يكون يعني كان الشيء في المكان وقتين: أي تحرك فيه وقتين وزعم أن الأجسام في حال خلق الله – سبحانه – لها متحركة حركة اعتماد.
2 – وقال بعض المتفلسفة: الجسم في حال ما خلقه الله – سبحانه – يتحرك حركة هي الخروج من العدم إلى الوجود.
3 – وقال معمر: الأجسام كلها ساكنة في الحقيقة ومتحركة على اللغة والسكون هو الكون لا غير ذلك والجسم في حال خلق الله له ساكن.
4 – وقال أبو الهذيل: الأجسام قد تتحرك في الحقيقة وتسكن في الحقيقة والحركة والسكون هما غير الكون والجسم في حال خلق الله – سبحانه – له لا ساكن ولا متحرك.
5 – وقال الجبائي أن الحركات والسكون أكوان للجسم والجسم في حال خلق الله له ساكن.
6 – وكان عباد يقول أن الحركات والسكون مماسات والجسم في حال خلق الله له ساكن.
وأبى كثير من أهل النظر أن تكون الأكوان مماسات وقالوا أنها غير مماسات.

14 – قولهم في وقوف الأرض

واختلفوا في وقوف الأرض:
1 – فقال قائلون من أهل التوحيد منهم أبو الهذيل وغيره: إن الله – سبحانه — سكنها وسكن العالم وجعلها واقفة على لاشيء.
2 – وقال قائلون: خلق الله – سبحانه — تحت العالم جسماً صعاداً من طبعه الصعود فعمل ذلك الجسم في الصعود كعمل العالم في الهبوط فلما اعتدل ذلك وتقاوم وقف العالم ووقفت الأرض.
3 – وقال قائلون: إن الله – سبحانه – يخلق تحت الأرض في كل وقت جسماً ثم يفنيه في الوقت الثاني ويخلق في حال فنائه جسماً آخر فتكون الأرض واقفة على ذلك الجسم وليس يجوز أن يهوى ذلك الجسم في حال حدوثه ولا يحتاج إلى مكان يقله لأن الشيء يستحيل أن يتحرك في حال حدوثه ويسكن.
4 – وقال قائلون: إن الله – سبحانه – خلق الأرض من جسمين أحدهما ثقيل والآخر خفيف على الاعتدال فوقفت الأرض لذلك.
وقد ذكرنا قول المتقدمين في ذلك في الموضع الذي وصفنا فيه قول الناس في الفلك وفي وقوف الأرض في كتاب مقالات الملحدين.

15 – هل تكون الحركة سكونا أم لا؟

واختلف الناس في الحركة هل تكون سكوناً أم لا؟:
1 – فقال أكثر أهل النظر: ذلك لا يجوز.
2 – وقال قائلون: إذا صار الجسم إلى المكان فبقي فيه وقتين صارت حركته سكوناً.

16 – قولهم في المداخلة والمكامنة والمجاورة

واختلف الناس في المداخلة والمكامنة والمجاورة[3].
1 – فقال إبراهيم النظَّام: إن كل شيء قد يداخل ضده وخلافه فالضد هو الممانع المفاسد لغيره مثل الحلاوة والمرارة والحر والبرد والخلاف مثل الحلاوة والبرودة والحموضة والبرد.
وزعم أن الخفيف قد يداخل الثقيل ورب خفيف أقل كيلاً من ثقيل وأكثر قوة منه فإذا داخله شغله يعني أن القليل الكيل الكثير القوة يشغل الكثير الكيل الثقيل القوة.
وزعم أن اللون يداخل الطعم والرائحة وأنها أجسام.

2 – وقد أنكر الناس جميعاً أن يكون جسمان في موضع واحد في حين واحد أنكر ذلك جميع المختلفين من أهل الصلاة ومن قال بقوله.
3 – وقال أهل التثنية: أن امتزاج النور بالظلمة على المداخلة التي ثبتها إبراهيم.
4 – وقال ضرار: أن الجسم من أشياء مجتمعة على المجاورة فتجاورت ألطف المجاورة وأنكر المداخلة وأن يكون شيئان في مكان واحد عرضان أو جسمان.
5 – وقال أكثر أهل النظر: أنه قد يكون عرضان في مكان واحد ولا يجوز كون جسمين في مكان واحد منهم أبو الهذيل وغيره.
6 – وحكى زرقان أن ضرار بن عمرو قال: الأشياء منها كوامن ومنها غير كوامن فأما اللواتي هن كوامن فمثل الزيت في الزيتون والدهن في السمسم والعصير في العنب وكل هذا على غير المداخلة التي ثبتها إبراهيم وأما اللواتي ليست بكوامن فالنار في الحجر وما أشبه ذلك ومحال أن تكون النار في الحجر إلا وهي محرقة له فلما رأيناها غير محرقة له علمنا أنه لا نار فيه.
7 – وقد قال كثير من أهل النظر: إن النار في الحجر كامنة حتى زعم أنها في الحطب كامنة الإسكافي وغيره.
8 – وحكى زرقان أن أبا بكر الأصم قال: ليس في العالم شيء كامن في شيء مما قالوا.
9 – وقال أبو الهذيل وإبراهيم ومعمر وهشام بن الحكم وبشر بن المعتمر: الزيت كامن في الزيتون والدهن في السمسم والنار في الحجر.
10 – وقال كثير من الملحدين: إن الألوان والطعوم والأراييح كامنة في الأرض والماء والهواء ثم يظهرن في النسرة وغيرها من الثمار بالانتقال واتصال الأشكال بعضها ببعض وشبهوا ذلك بحبة زعفران قذفت في نعارة[4] ماء ثم غذي بأشكالها فتظهر.

17 – قولهم في الإنسان ماهو؟

واختلف الناس في الإنسان ما هو؟:
1 – فقال أبو الهذيل: الإنسان هو الشخص الظاهر المرئي الذي له يدان ورجلان وحكي أن أبا الهذيل كان لا يجعل شعر الإنسان وظفره من الجملة التي وقع عليها اسم الإنسان.
2 – وحكي أن قوماً قالوا: أن البدن هو الإنسان وأعراضه ليست منه وليس يجوز إلا أن يكون فيه عرض من الأعراض.
3 – وقال بشر بن المعتمر: الإنسان جسد وروح وأنهما جميعاً إنسان وأن الفعال هو الإنسان الذي هو جسد وروح.
4 – وكان أبو الهذيل لا يقول: إن كل بعض من أبعاض الجسد فاعل على الانفراد ولا أنه فاعل مع غيره ولكنه يقول الفاعل هو هذه الأبعاض.
5 – وقال ضرار بن عمرو: الإنسان من أشياء كثيرة لون وطعم ورائحة وقوة وما أشبه ذلك وأنها الإنسان إذا اجتمعت وليس ها هنا جوهر غيرها.
6 – وأنكر حسين النجار أن تكون القوة بعض الإنسان وأنكر ذلك أكثر أهل النظر.
7 – وقال عباد بن سليمان: الإنسان معناه أنه بشر فمعنى إنسان معنى بشر ومعنى بشر معنى إنسان في حقيقة القياس وزعم أن الإنسان جواهر وأعراض.
8 – وقال برغوث: إن الإنسان هو الأخلاط من اللون والطعم والرائحة وما أشبه ذلك وأن الإنسان إذا تحرك بعضه وسكن بعضه فعل البعض الساكن الحركة لا من جهة ما فعله المتحرك وفعل البعض المتحرك السكون لا من جهة ما فعله الساكن وأن كل بعض من أبعاض الإنسان يفعل فعل الآخر لا من جهة ما فعله الآخر.
9 – وحكى زرقان أن هشام بن الحكم قال: الإنسان اسم لمعنيين لبدن وروح فالبدن موات والروح هي الفاعلة الحساسة الدراكة دون الجسد وهو نور من الأنوار.

10 – وقال أبو بكر الأصم: الإنسان هو الذي يرى وهو شيء واحد لا روح له وهو جوهر واحد ونفى إلا ما كان محسوساً مدركاً.
11 – وقال النظام: الإنسان هو الروح[5] ولكنها مداخلة للبدن مشابكة له وأن كل هذا في كل هذا وأن البدن آفة عليه وحبس وضاغط له.
وحكى زرقان عنه أن الروح هي الحساسة الدراكة وأنها جزء واحد وأنها ليست بنور ولا ظلمة.
12 – وقال معمر: الإنسان جزء لا يتجزأ[6] وهو المدبر في العالم والبدن الظاهر آلة له وليس هو في مكان في الحقيقة ولا يماس شيئاً ولا يماسه ولا يجوز عليه الحركة والسكون والألوان والطعم ولكن يجوز عليه العلم والقدرة والحياة والإرادة والكراهة وأنه يحرك هذا البدن بإرادته ويصرفه ولا يماسه.
13 – وقال قائلون: الإنسان جزء لا يتجزأ وقد يجوز عليه المماسة والمباينة والحركة والسكون وهو جزء في بعض هذا البدن حال ومسكنه القلب وأجازوا عليه جميع الأعراض وهذا قول الصالحي.
14 – وكان ابن الراوندي يقول: هو في القلب وهو غير الروح والروح ساكنة في هذا البدن.
15 – وقال قائلون: الإنسان هو الحواس الخمس وهي أجسام وهم المنانية وأنه لا شيء غير الحواس الخمس.
16 – وقال آخرون: الإنسان هو الروح والحواس الخمس أجزاء منه والإنسان جنس واحد غير مختلف إلا أن إدراكه اختلف فكان يدرك بكل جهة ما لا يدركه بالأخرى لأن الآفة قد خالطته من جهة على خلاف ما خالطته من جهة أخرى فاختلف الإدراك لاختلاف الأخلاط والامتزاج وهم الديصانية.
17 – وحكي عن المرقونية أنهم يزعمون أن البدن فيه حواس خمس وروح وأن الروح هي الإنسان وأن الحواس ليست منه إلا أنها إرادات تؤدي إليه وهو غير البدن وجعلوه جنساً ثالثاً ليس بنور ولا ظلمة.
18 – وقال أصحاب الطبائع: الإنسان هو الحر والبرد واليبس والبلة اختلط بهذا الضرب من الاختلاط وكذلك سمعه وسائر حواسه وكذلك جثته ولحمه ودمه وجميع هذه الأمور هي الإنسان.

19 – وقال أصحاب الهيولى أقاويل مختلفة: فزعم بعضهم أن الإنسان هو الجوهر الحي الناطق الميت وأنه إنسان في حال نطقه وحياته وجوزوا الموت عليه وقد كان قبل ذلك لا إنساناً.
وقال بعضهم: الإنسان هو الحي الناطق وهو الجوهر وأعراضه.
وقال آخرون: بل في الجوهر شيء ليس بمماس ولا مباين ولا أحد منهما مختلط بصاحبه وهو في الجوهر على أنه مدبر له.

18 – قولهم في الروح والنفس والحياة

واختلف الناس في الروح والنفس والحياة وهل الروح هي الحياة أو غيرها؟ وهل الروح جسم أم لا؟
1 – فقال النظام: الروح هي جسم وهي النفس وزعم أن الروح حي بنفسه وأنكر أن تكون الحياة والقوة معنى غير الحي القوي وأن سبيل كون الروح في هذا البدن على جهة أن البدن آفة عليه وباعث له على الاختيار ولو خلص منه لكانت أفعاله على التولد والاضطرار وقد حكينا قوله في الإنسان فيما تقدم من كتابنا.
2 – وقال قائلون: الروح عرض.
3 – وقال قائلون منهم جعفر بن حرب: لا ندري الروح جوهر أو عرض واعتلوا في ذلك بقول الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] ولم يخبر عنها ما هي لا أنها جوهر ولا أنها عرض وأظن جعفراً ثبت الحياة غير الروح وثبت الحياة عرضاً.
4 – وكان الجبائي يذهب إلى أن الروح جسم وأنها غير الحياة والحياة عرض ويعتل بقول أهل اللغة: خرجت روح الإنسان فزعم أن الروح لا تجوز عليها الأعراض.
5 – وقال قائلون: ليس الروح شيئاً أكثر من اعتدال الطبائع الأربع ولم يرجعوا من قولهم اعتدال إلا إلى المعتدل ولم يثبتوا في الدنيا شيئاً إلا الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة.
6 – وقال قائلون: إن الروح معنى خامس غير الطبائع الأربع وأنه ليس في الدنيا

إلا الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والروح.
واختلفوا في أعمال الروح فثبتها بعضهم طباعاً وثبتها بعضهم اختياراً.
7 – وقال قائلون: الروح الدم الصافي الخالص من الكدر والعفونات وكذلك قالوا في القوة.
8 – وقال قائلون: الحياة هي الحرارة الغريزية.
وكل هؤلاء الذين حكينا قولهم في الروح من أصحاب الطبائع يثبتون أن الحياة هي الروح.
9 – وكان الأصم لا يثبت الحياة والروح شيئاً غير الجسد ويقول: ليس أعقل إلا الجسد الطويل العريض العميق الذي أراه وأشاهده وكان يقول: النفس هي هذا البدن بعينه لا غير وإنما جرى عليها هذا الذكر على جهة البيان والتأكيد لحقيقة الشيء لا على أنها معنى غير البدن.
10 – وذكر عن أرسطاطاليس أن النفس معنى مرتفع عن الوقوع تحت التدبير والنشوء والبلى غير داثرة[7] وأنها جوهر بسيط منبث[8] في العالم كله من الحيوان على جهة الإعمال له والتدبير وأنه لا تجوز عليه صفة قلة ولا كثرة وهي على ما وصفت من انبساطها في هذا العالم غير منقسمة الذات والبنية وأنها في كل حيوان العالم بمعنى واحد لا غير.
11 – وقال آخرون: بل النفس معنى موجود ذات حدود وأركان وطول وعرض وعمق وأنها غير مفارقة في هذا العالم لغيرها مما يجري عليه حكم الطول والعرض والعمق فكل واحد منهما يجمعهما صفة الحد والنهاية وهذا قول طائفة من الثنوية يقال لهم المنانية.
12 – وقالت طائفة: إن النفس توصف بما وصفها هؤلاء الذين قدمنا ذكرهم من معنى الحدود والنهايات إلا أنها غير مفارقة لغيرها مما لا يجوز أن يكون موصوفاً بصفة الحيوان وهؤلاء الديصانية.
13 – وحكى الجريري عن جعفر بن مبشر أن النفس جوهر ليس هو هذا الجسم وليس بجسم ولكنه معنى بين الجوهر والجسم.

14 – وقال آخرون: النفس معنى غير الروح والروح غير الحياة والحياة عنده عرض وهو أبو الهذيل. وزعم أنه قد يجوز أن يكون الإنسان في حال نومه مسلوب النفس والروح دون الحياة واستشهد على ذلك بقول الله -عز وجل-: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42].
15 – وقال جعفر بن حرب: النفس عرض من الأعراض يوجد في هذا الجسم وهو أحد الآلات التي يستعين بها الإنسان على الفعل كالصحة والسلامة وما أشبههما وأنها غير موصوفة بشيء من صفات الجواهر والأجسام.

19 – قولهم في الحواس

واختلف الناس في الحواس:
1 – فقالت المنانية: الإنسان هو الحواس الخمس وأنها أجسام وأنه لا شيء غير الحواس لأن الأشياء عندهم شيئان نور وظلمة وأن النور خمس حواس وأن الظلام خمس حواس سمع وبصر وحاسة الذوق والشم وحاسة اللمس.
2 – وقالت الديصانية: أن الظلام موات جاهل لا حس له وأن النور حي بنفسه حساس وأن سمع النور هو بصره وهو ذائقه وهو شامه وإنما اختلف إدراكه فصار يدرك بجهة ما لا يدرك بالجهة الأخرى لأن الآفة خالطته من جهة خلاف ما خالطته من الجهة الأخرى فاختلف الإدراك لاختلاف الأعراض. وزعموا أن النور بياض كله وأن الظلام سواد كله وإنما اختلفت الألوان فصار منها صفرة وخضرة إلى غير ذلك لاختلاف اختلاط هذين اللونين وزعموا أن اللون هو الطعم.
3 – وحكي عن المرقونية أنهم يزعمون أن البدن فيه روح وحواس خمس وأن الروح غير الحواس وغير البدن.
4 – وقد أنكر كثير من الناس الحواس وهم الذين ينفون الأعراض وزعموا أنه ليس إلا السميع البصير الذائق الشام اللامس وليس ها هنا سمع وبصر وحاسة ذوق وحاسة شم وحاسة يكون بها اللمس غير الجسد فدفعوا الحواس وأنكروها.

5 – وحكى زرقان عن أبي الهذيل ومعمر أنهما ثبتا الحواس الخمس أعراضاً غير البدن وأنهما ثبتا النفس عرضاً غيرها وغير البدن.
6 – وثبت عباد بن سليمان الإنسان ست حواس السمع والبصر وحاسة الذوق وحاسة الشم وحاسة اللمس. وثبت الفرج حاسة سادسة.
7 – وحكى الجاحظ أن النظام قال: إن النفس تدرك المحسوسات من هذه الخروق التي هي الأذن والفم والأنف والعين لا أن للإنسان سمعاً هو غيره وبصراً هو غيره وأن الإنسان يسمع بنفسه وقد يصم لآفة تدخل عليه وكذلك يبصر بنفسه وقد يعمى لآفة تدخل عليه.


[1] عن الطفرة: انظر: الفرق بين الفرق: 98 الملل والنحل: 1/ 47 – 48.

[2] الفرق بين الفرق: 97 الملل والنحل: 1/ 47

[3] الانتصار: 51 – 52 الفرق بين الفرق: 100 الملل والنحل: 1/ 48.
وعن الكمون: انظر كتاب الحيوان للجاحظ “طبعة المطبعة المصرية 1324هـ” 5/ 2 – 9.
ومعنى المداخلة: أن يكون حيز أحد الجسمين حيز الآخر وأن يكون أحد الشيئين في الآخر وسنذكر قوله في الإنسان.

[4] نعارة: رجل نعار في الفتن: خراج فيها سعاء. لايراد به الصوت وإنما يراد به الحركة. والنعار أيضا: العاصي. وامرأة نعارة: صخابة فاحشة. الجرح النعار: الذي لا يرقأ

[5] الانتصار: 36 – 37 الفرق بين الفرق: 95 الملل والنحل: 1/ 47

[6] الفرق بين الفرق: 93 – 94 الملل والنحل: 1/ 47 – 48.

[7] داثرة: السيف الداثر: البعيد العهد بالصقال. الداثر: الهالك, الدثور: الدروس

[8] منبث: نبث التراب: استخرجه من بئر وفلان ينبث عن عيوب الناس: يظهرها ومنبث: منتشر بعد دفنه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *