منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين
تأليف الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله
الأصل فيه قوله تعالى : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴿97﴾ } ( ) [ آل عمران : 97 ] .
والاستطاعة أعظم شروطه ، وهي : ملك الزاد والراحلة بعد ضرورات الإنسان وحوائجه الأصلية .
ومن الاستطاعة : أن يكون للمرأة محرم إذا احتاجت إلى سفر ، وحديث جابر في حج النبي صلى الله عليه وسلم يشتمل على أعظم أحكام الحج ، وهو ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : { أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في المدينة تسع سنين لم يحج ، ثم أُذِّن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج ، فقدم المدينة بشر كثير – كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله – فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة ، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر ، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع ؟ قال : ” اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي ” .
فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثمّ ركب القصواء حتى استوت به ناقته على البيداء ، أهلَّ بالتوحيد : (لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك) ، وأهلَّ الناس بهذا الذي يهلون به ، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه ، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته .
قال جابر : لسنا ننوي إلا الحج ، لسنا نعرف العمرة ، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فطاف سبعا فَرَمَلَ ثلاثا ومشى أربعا ، ثمّ نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿125﴾ } ( ) [ البقرة : 125 ]
فصلى ركعتين ، فجعل المقام بينه وبين البيت – وفي رواية أنه قرأ في الركعتين : { قل هو الله أحد } ( ) و { قل يا أيها الكافرون } ( ) – ثمّ رجع إلى الركن واستلمه ، ثمّ خرج من الباب إلى الصفا ، فلما دنا من الصفا قرأ : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ( ) [ البقرة : 158 ] . ” أبدأ بما بدأ الله به ” .
فبدأ بالصفا فرقي عليه ، حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره ، وقال : ” لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ” ،
ثمّ دعا بين ذلك – قال مثل هذا ثلاث مرات – ثمّ نزل ومشى إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى ، حتى إذا صعدنا مشى ، حتى أتى المروة ، ففعل على المروة كما فعل على الصفا – حتى كان آخر طواف على المروة ، فقال : ” لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة ” .
فقام سراقة بن جعشم ، فقال : يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد ؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال : ” دخلت العمرة في الحج – مرتين – لا ، بل لأبد أبد ” .
وقدم عَلِيٌّ من اليمن ببدن للنبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة ممن حل ، ولبست صبيغا واكتحلت ، فأنكر ذلك عليها فقالت : إن أبي أمرني بهذا ، قال : فكان علي يقول بالعراق : فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحرِّشا على فاطمة للذي صنعت ، مستفتيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه ، فأخبرته أني أنكرت عليها ، فقال : ” صدقت ، صدقت ، ماذا قلتَ حين فرضتَ الحج ؟ ” قال : قلتُ : اللهم إني أُهلُّ بما أَهَلَّ به رسولك . قال : ” فإن معي الهدي فلا تحل ” .
قال : فكان جماعة الهدي الذي قدم به عليٌّ من اليمن ، والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة ، قال : فحل الناس كلهم ، وقصروا ، إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي .
فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى ، فأهلوا بالحج ، وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ، ثمّ مكث قليلا حتى طلعت الشمس ، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة ، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام ، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فَرُحِلَتْ له ، فأتى بطن الوادي ، فخطب الناس ، وقال :
” إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أضع من دمائنا : دم ابن ربيعة بن الحارث – كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل – وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله ، فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب الله ، وأنتم تُسألون عني يوم القيامة ، فما أنتم قائلون ؟ “
قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فقال – بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس – : ” اللهم اشهد ، اللهم اشهد ” – ثلاث مرات – ،
ثمّ أذن بلال ، ثمّ أقام فصلى الظهر ، ثمّ أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئا ، ثمّ ركب حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ، وأردف أسامة بن زيد خلفه ، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : ” أيها الناس ، السكينةَ ، السكينةَ ” ، كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد ، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ،
ثم اضطجع حتى طلع الفجر ، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثمّ ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده ، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ، فدفع قبل أن تطلع الشمس ، وأردف الفضل بن العباس ، حتى أتى بطن مُحَسِّر ، فحرك قليلا ،
ثمّ سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة منها ، مثل حصى الخذف ، رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر ، وأشركه في هديه ،
ثم أمر من كل بدنة ببَضْعَة ، فجُعلت في قدر وطبخت ، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ، ثمّ ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر ، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال : ” انزعوا بني عبد المطلب ، فولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ” فناولوه دلوا فشرب منه } . رواه مسلم .
وكان صلى الله عليه وسلم يفعل المناسك ، ويقول للناس : { خذوا عني مناسككم } ( ) فأكمل ما يكون من الحج : الاقتداء فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم .
ولو اقتصر الحاج على الأركان الأربعة ، التي هي : الإحرام ، والوقوف بعرفة ، والطواف ، والسعي . والواجبات التي هي : الإحرام من الميقات ، والوقوف بعرفة إلى الغروب ، والمبيت ليلة النحر بمزدلفة ، وليالي أيام التشريق بمنى ، ورمي الجمار ، والحلق – أو التقصير – لأجزأه ذلك .
والفرق بين ترك الركن في الحج وترك الواجب : أن تارك الركن لا يصح حجه حتى يفعله على صفته الشرعية ، وتارك الواجب حجه صحيح ، وعليه إثم ودم لتركه .
ويخير من يريد الإحرام بين التمتع – وهو أفضل – والقران ، والإفراد .
فالتمتع هو : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ، ثمّ يحرم بالحج من عامه ، وعليه هدي إن لم يكن من حاضري المسجد الحرام .
والإفراد هو : أن يحرم بالحج من الميقات مفردا .
والقران : أن يحرم بهما معا ، أو يحرم بالعمرة ثمّ يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها ، ويضطر التمتع إلى هذه الصفة إذا خاف فوات الوقوف بعرفة إذا اشتغل بعمرته ، وإذا حاضت المرأة أو نفست وعرفت أنها لا تطهر قبل وقت الوقوف بعرفة .
والمفرد والقارن فعلهما واحد ، وعلى القارن هدي دون المفرد .
ويجتنب المحرم جميع محظورات الإحرام من : حلق الشعر ، وتقليم الأظافر ، ولبس المخيط ، إن كان رجلا ، وتغطية رأسه إن كان رجلا ، ومن الطيب رجلا وامرأة .
وكذلك يحرم على المحرم : قتل الصيد البر الوحشي المأكول والدلالة عليه والإعانة على قتله .
وأعظم محظورات الإحرام : الجماع ؛ لأن تحريمه مغلظ ، مفسد للنسك موجب لفدية بدنة .
وأما فدية الأذى إذا غطى رأسه أو لبس المخيط أو غطت المرأة وجهها أو لبست القفازين أو استعمال الطيب ، فيخير بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة .
وإذا قتل الصيد خير بين ذبح مثله – إن كان له مثل من النعم – وبين تقويم المثل بمحل الإتلاف ، فيشتري به طعاما فيطعمه لكل مسكين مد بر أو نصف صاع من غيره ، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوما .
وأما دم المتعة والقران : فيجب فيه ما يجزئ في الأضحية ، فإن لم يجد صام عشرة أيام : ثلاثة في الحج – ويجوز أن يصوم أيام التشريق منها – وسبعة إذا رجع ، وكذا حكم من ترك واجبا أو وجبت عليه الفدية لمباشرة .
وكل هدي أو إطعام يتعلق بحرم أو إحرام : فلمساكين الحرم من مقيم وآفاقي .
ويجزي الصوم بكل مكان .
ودم النسك – كالمتعة والقران ، والهدي – : المستحب أن يأكل منه ويهدي ويتصدق .
والدم الواجب لفعل المحظور ، أو ترك الواجب – ويسمى دم جبران – : لا يأكل منه شيئا ، بل يتصدق بجميعه ؛ لأنه يجري مجرى الكفارات .
وشروط الطواف مطلقا : النية ، وأن يبدأ من الحجر ، ويسن أن يستلمه ويقبله ، فإن لم يستطع أشار إليه ، ويقول عند ذلك : ” بسم الله ، الله أكبر ، اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ” ، وأن يجعل البيت عن يساره ، ويكمل الأشواط السبعة ، وأن يتطهر من الحدث والخبث .
والطهارة في سائر الأنساك – غير الطواف – سنة غير واجبة ، وقد ورد في الحديث : { أن الطواف بالبيت صلاة ، إلا أن الله أباح فيه الكلام } ( ) .
ويسن له أن يضطبع في طواف القدوم ، بأن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن وطرفه على عاتقه الأيسر ، وأن يرمل في الثلاثة الأشواط الأول منه ويمشي في الباقي ، وكل طواف سوى هذا لا يسن فيه رمل ولا اضطباع .
وشروط السعي : النية ، وتكميل السبعة ، والابتداء من الصفا .
والمشروع : أن يكثر الإنسان في طوافه وسعيه وجميع مناسكه من ذكر الله ودعائه لقوله صلى الله عليه وسلم { إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله } ( ) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : { لما فتح الله على رسوله مكة قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنها لن تحل لأحد كان قبلي ، وإنما حلت لي ساعة من نهار ، وإنها لن تحل لأحد بعدي ، فلا ينفر صيدها ولا يختلى شوكها ، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، فقال العباس : إلا الإذخر يا رسول الله ، فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا ، فقال : إلا الإذخر } ( ) . متفق عليه ، وقال : { المدينة حرام ما بين عير إلى ثور } ( ) . رواه مسلم ، وقال { خمس من الدواب كلهن فاسق ، يقتلن في الحل والحرم : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور } ( ) . متفق عليه .
باب الهدي والأضحية والعقيقة
تقدم ما يجب من الهدي ، وما سواه سنة ، وكذلك الأضحية والعقيقة .
ولا يجزئ فيها إلا الجذع من الضأن ، وهو ما تمّ له نصف سنة ، والثني من الإبل : ما له خمس سنين ، ومن البقر : ما له سنتان ، ومن المعز : ما له سنة ، قال صلى الله عليه وسلم { أربع لا تجوز في الضحايا : العوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها ، والعرجاء البين ضلعها ، والكبيرة التي لا تنقي } ( ) . صحيح ، رواه الخمسة .
وينبغي أن تكون كريمة كاملة الصفات ، وكلما كانت أكمل فهي أحب إلى الله وأعظم لأجر صاحبها ، وقال جابر : { نحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة } ( ) . رواه مسلم .
وتسن العقيقة في حق الأب : عن الغلام شاتان ، وعن الجارية شاة ، قال صلى الله عليه وسلم { كل غلام مرتهن بعقيقته ، تذبح عنه يوم سابعه ويحلق رأسه ، ويسمى } ( ) . صحيح ، رواه الخمسة .
ويأكل من المذكورات ، ويهدي ويتصدق ، ولا يعطي الجازر أجرته منها ، بل يعطيه هدية أو صدقة .